جلسـة 28 من يناير سنة 2012
الطعـن رقم 9585 لسنة 56 القضائية (عليا)
(الدائرة الرابعة)
– شئون الضباط- تأديبهم- المخالفات التأديبية- حق الضابط في التعبير عن رأيه- لضابط الشرطة، كأي مواطن، الحق في التعبير عن رأيه ونشره بالقول أو الكتابة أو التصوير أو غير ذلك من وسائل التعبير في حدود القانون، ليس عن أسرار عمله أو مقتضاها أو طبيعته أو محتواها، وإنما كمبدع أو متقاضٍ، وكمواطن يدلي بدلوه في الهم أو الشأن العام، مادام أن إعماله لأي من هذه الحقوق أو الرخص الدستورية يخلو من الإساءة إلى الهيئة التي ينتمي إليها (وهي هيئة الشرطة)، أو الوزير الذي يتربع على سدتها، ومن المساس بهيبة النظام أو الإسقاط عليه- التعليمات الصادرة عن وزارة الداخلية في هذا الشأن لا يسوغ أن تنهض نِدَّا للأسس الدستورية التي كفلت حرية التعبير، أو للقواعد والنصوص القانونية الواردة بقانون هيئة الشرطة، التي عددت المحظورات، وليس من بينها حظرٌ على حرية الضابط في التعبير عن رأيه في غير مجال عمله الشرطي، سواء في مجال الإبداع الفني أو الأدبي أو العلمي، وكذا حقه في التقاضي، فلا تثريب على الضابط إذا أعمل هذه الحريات، وأجاب طلب الصحافة إجراء حوار معه حول تلك الأمور- القاعدة المستقرة في الفكر الإنساني والشرائع السماوية هي أن الأصل في الأشياء الإباحة، ولا محظور إلا بنص.
– المواد (1) و(3) و(42) من قانون هيئة الشرطة (الصادر بالقرار بقانون رقم 109 لسنة 1971).
– شئون الضباط- تأديبهم- المخالفات التأديبية- لا يعد من المخالفات التأديبية قول الضابط إنه لا يمثل النظام السياسي، لأنه أقسم على احترام الدستور والقانون والحفاظ على النظام الجمهوري، ومن ثم فهو يمثل الدستور والقانون، ولا يمثل السلطة التي عليها الالتزام بالدستور؛ ذلك أن هذا القول هو ترديد لأصل من الأصول القانونية التي ينبغي على الضابط التمسك بأهدابها، والسير على هداها.
– المادة (7) من قانون هيئة الشرطة (الصادر بالقرار بقانون رقم 109 لسنة 1971).
في يوم السبت الموافق 13/2/2010 أودع وكيل الطاعن قلم كتاب المحكمة تقرير طعن في قرار مجلس التأديب الاستئنافى لضباط الشرطة بجلسة 22/12/2009 في الاستئناف رقم 190 لسنة 2009، القاضي بقبول الاستئناف شكلا، ورفضه موضوعا، وتأييد القرار المستأنف.
وطلب الطاعن -استنادا إلى ما أورده من أسباب- الحكم بقبول الطعن شكلا، وبوقف تنفيذ، ثم إلغاء القرار المطعون فيه، والقضاء مجددا ببراءته مما أسند إليه، مع ما يترتب على ذلك من آثار.
وأعدت هيئة مفوضي الدولة تقريرا مسببا بالرأي القانوني ارتأت فيه الحكم بقبول الطعن شكلا، وفي الموضوع بإلغاء قرار مجلس التأديب الاستئنافي لضباط الشرطة في الاستئناف رقم 190 لسنة 2009 بجلسة 22/12/ 2009، والقضاء مجددا بإعادة الدعوى التأديبية المقامة من الطاعن إلى مجلس تأديب ضباط الشرطة لمحاكمته عما أسند إليه أمام دائرة أخرى.
وإذ جرى تداول الطعن أمام دائرة فحص الطعون فقد حضر محامي الدولة، وطلب أجلا للاطلاع والتعقيب، وبجلسة 22/6/ 2011 قررت الدائرة إحالة الطعن إلى هذه المحكمة، حيث جرى تداوله أمامها على النحو المبين بمحاضر الجلسات، وقد حضر محامي الدولة وطلب حجز الطعن للحكم، وبجلسة 8/10/ 2011 قررت المحكمة إصدار الحكم بجلسة 19/11/ 2011، وبهذه الجلسة قررت -استمرارا للمداولة- مد أجل النطق بالحكم لجلسة 17/12/2011، وفيها قررت -إتماما للمداولة- مد أجل النطق بالحكم لجلسة اليوم، وفيها صدر وأودعت مسودته مشتملة على أسبابه عند النطق به.
بعد الاطلاع على الأوراق، وسماع الإيضاحات، وبعد المداولة قانونا.
حيث إن الطعن قد استوفى أوضاعه الشكلية.
وحيث إن عناصر المنازعة تخلص -حسبما يبين من الأوراق- في أنه بتاريخ 19/5/2009 أصدر وزير الداخلية القرار رقم 127 لسنة 2009 بإحالة المقدم دكتور بالاحتياط/… (الطاعن) الضابط بمديرية أمن الإسكندرية إلى مجلس التأديب الابتدائي لضباط الشرطة لمحاكمته تأديبيا؛ لأنه بوصفه موظفا عاما (ضابط شرطة) خالف التعليمات لإجرائه حوارا صحفيا مع جريدة (صوت الأمة) نشر بعددها الصادر بتاريخ 18/5/2009، مخالفا لما حوته الكتب الدورية من تعليمات كان ينبغي عليه الالتزام بها من ضرورة الحصول المسبق على إذن بذلك.
وجرى تداول الدعوى أمام مجلس التأديب الابتدائي على النحو المبين بجلساته، وبجلسة 5/7/2009 قرر مجازاته بالعزل من الوظيفة، وأقام المجلس قراره على أن الثابت من الاطلاع على الحوار الصحفي الذى أجرته جريدة صوت الأمة مع المحال بعددها الصادر بتاريخ 18/5/2009 أنه ورد تحت عنوان رئيس: “المقدم شرطة/… يصف وزير الداخلية بـمستشار الخوف”، كما ورد بالعنوان الفرعي للحوار: “روايته- العزبة- انتقدت توريث الحكم لابن الرئيس بعبارة: هي كانت عزبة أبوك”، كما أن الثابت بسؤاله فى الحوار عما إذا كان معارضا للنظام رغم حساسية وظيفته كضابط شرطة فقد أجاب بأن أفكاره تختلف مع الكثير من ممارسات النظام، وأنه بسؤاله: “إذن أنت ضابط شرطة معارض للسلطة التي تمثلها؟ قرر بالحوار أنَّ ضابط الشرطة يقسم يوم التخرج على احترام الدستور والقانون، والحفاظ على النظام الجمهوري، وبالتالي أنا لا أمثل السلطة، ولكن أمثل الدستور والقانون، ومن يخرج عنهما يخلع الشرعية من فوق أكتاف السلطة التي يمثلها”، وبسؤاله: “كيف؟” أجاب قائلا: “إن توسيع قاعدة المشاركة السياسية بحيث تضم كل فئات المجتمع يمثل حصن الأمان لاستقراره، وأن القدرة على توجيه أجهزة الأمن لخدمة مصالح السلطة وليس الدستور والقانون ينبع في الأساس من سلب ضباط وأفراد هذا الجهاز حقهم في التصويت، الأمر الذي يجعلهم أطوع للتواطؤ مع السلطة، طالما لا يمكنهم من خلال الصندوق الانتخابي تغييرها”.
وأضاف القرار المذكور أنه بمواجهة المخالف بالمخالفة المنسوبة إليه أفاد بعلمه العام بالكتب الدورية والتعليمات المنتظمة للإدلاء بالبيانات أو التصريحات الصحفية، والتي تتطلب التقيد بالحصول على إذن مسبق، بيد أنه يرى أن المادة (42) من قانون هيئة الشرطة تعطيه الحق في الإدلاء بأحاديث وتصريحات دون الحصول على إذن مسبق، بالرغم من أنه ضابط بالعلاقات العامة بمديرية أمن الإسكندرية منذ تسعة عشر عاما، ومن ثم فإن المجلس (مجلس التأديب الابتدائى) يستخلص أنه ولئن كان للمُحال الحق في حرية الكلمة والتعبير عن رأيه بحسبانها من الحريات الأساسية المكفولة له دستوريا، إلا أن ممارسته لتلك الحرية إنما يتعين أن تكون في إطار من القانون الذي يحكمه، وأن حد هذه الممارسة يقف عند موقعه كضابط شرطة، بما يحتمه عليه هذا الموقع من الانخراط في منظومة الهيئة المدنية النظامية التي ينتمي إليها، وقيامه بأداء واجبه المنوط به قانونا، ملتزما في ذلك بحرفية التعليمات والضوابط المقررة لتنظيم هذا العمل، وأنه لا يسوغ له التذرع بممارسة حقه في حرية التعبير والكلمة للخروج عن الحد المقرر لموقعه، وعلى نحو يطال رموز الدولة من خلال إسقاطات سياسية تعمد الخروج إليها بذريعة التعليق الصحفي على عمل أدبى من صنيعه، وأن يصف ضباط الشرطة بالفئة المعزولة والمهشمة، وأن يتهمهم بقابليتهم للتواطؤ مع السلطة، وأن يجعل من نفسه سببا رئيسا يسمح لمن أجرى معه الحوار أن يصطنع من حواره ما يشاء من عناوين تمثل الإساءة وتثير البلبلة، وهو ما يكشف عن أن الحوار المشار إليه لم يكن في حدود التعبير عن رؤيته أو روايته، وإنما كانت مادة الحوار في صميم أعمال وأنشطة هيئة الشرطة.
وفي مجال تقدير مدى جسامة المخالفة الثابتة في حق المحال وتقرير الجزاء المناسبة لها قرر المجلس أنه يضع في اعتباره أن المحال ضابط شرطة يشغل منصب رئيس العلاقات العامة بإدارة الإعلام والعلاقات العامة بمديرية أمن الإسكندرية، ويدرك تمام الإدراك -حسبما أقر- الضوابط والقواعد المقررة في شأن التعامل مع الإعلام، كما أنه على علم كامل بمدى أثر التصريحات الإعلامية موضوع الحوار الذي أجراه في هيئة الشرطة لما تتضمنه من إسقاطات سياسية على النظام السياسي للدولة، وما أشار إليه من أوصاف لضباط الشرطة لا تمت للواقع بصلة، مما يقطع بقصده الإساءة غير المبررة والبعيدة كل البعد عن النقد والإفادة، وجرأته على مخالفة القانون، بما يكشف عن عدم صلاحيته للانتماء لهيئة الشرطة، ومن ثم يقرر المجلس مجازاته بالعزل من الخدمة.
……………………………………..
وإذ لم يرتض الطاعن هذا القرار فقد أقام عليه طعنا أمام مجلس التأديب الاستئنافى قيد برقم 190 لسنه 2009، ناعيا عليه مخالفة القانون، وبجلسة 22/12/ 2009 قرر المجلس قبول الاستئناف شكلا، ورفضه موضوعا، وتأييد القرار المستأنف، وأقام قراره على أن القرار المستأنف بنى اقتناعه على الأسباب التى استخلصها من أصول ثابتة في الأوراق، والتي يأخذ بها المجلس، وقد انتهى إلى مجازاة الضابط المحال بالعزل من الوظيفة، وهو جزاء يتناسب مع المخالفة الثابتة في حقه، خاصة أن الأوراق لم تنطو على أي جديد يغير من قناعة المجلس بسلامة القرار المستأنف.
……………………………………..
وحيث إن مبنى الطعن أسباب ثلاثة حاصلها:
(أولا) انتفاء مُخالفة الطاعن لأي نص من نصوص قانون هيئة الشرطة خاصة المادة (43) التي تنظم ما يحظر على ضابط الشرطة، كذلك عدم مخالفته لأي قانون آخر أو قرارات لوزير الداخلية.
(ثانيا) انتفاء مسئولية الطاعن عن العنوان الذي قدمت به جريدة صوت الأمة حواره الصحفي معها، إذ جاء بعنوان “مستشار الخوف” في إشارة إلى وزير الداخلية تعليقا على هذه الحوارات بالرغم من أنها منبتة الصلة بهذا العنوان، وغير مستخلصة من أية عبارة تضمنها نص إجاباته.
(ثالثا) عدم تناسب العقوبة الموقعة عليه مع الذنب التافه غير الحقيقي المسند إليه.
……………………………………..
وحيث إنه لما كان قوام المخالفة المسندة إلى الطاعن هي إجراؤه حديثا صحفيا مع جريدة صوت الأمة بالمخالفة لما تضمنته الكتب الدورية من تعليمات كان لزاما عليه طبقا لها الحصول على إذن مسبق من جهة عمله، وقد انتهى القرار المطعون فيه إلى ثبوت هذه المخالفة في شأنه، وذلك على عكس ما أبداه الطاعن بتقرير طعنه ودفاعه من عدم سلامة ما نسب إليه مرجعا ومضمونا أو قانونا وواقعا، ومن ثم فإن مقطع الفصل في النزاع هو بيان ما إذا كان الحوار الصحفي محل المساءلة قد جاء -من ناحية الطاعن- في حدود التعبير عن رؤيته أو روايته، أم كانت مادة الحوار – كما انتهى القرار الطعين- في صميم أعمال أنشطة هيئة الشرطة.
وحيث إن قانون هيئة الشرطة (الصادر بالقرار بقانون رقم 109 لسنة 1971) ينص في المادة (1) على أن: “هيئة الشرطة هيئة مدنية نظامية بوزارة الداخلية رئيسها الأعلى رئيس الجمهورية، تؤدي وظائفها وتباشر اختصاصاتها برئاسة وزير الداخلية وتحت قيادته…”.
وينص في المادة (3) على أن: “تختص هيئة الشرطة بالمحافظة على النظام والأمن العام والآداب، وبحماية الأرواح والأعراض والأموال، وعلى الأخص منع الجرائم وضبطها، كما تختص بكفالة الطمأنينة والأمن للمواطنين في كافة المجالات، وبتنفيذ ما تفرضه عليها القوانين واللوائح من واجبات”.
وفي المادة (7) على أن: “يؤدي ضباط الشرطة عند بدء تعيينهم وقبل مباشرة أعمال وظائفهم يمينا أمام وزير الداخلية بالنص الآتي: أقسم بالله العظيم أن أحافظ على النظام الجمهوري، وأن احترم الدستور والقانون، وأرعى سلامة الوطن، وأؤدي واجبي بالذمة والصدق”.
وفي المادة (42) على أنه: “يحظر على الضابط:
(1) أن يفضي بغير إذن كتابى من وزير الداخلية بمعلومات أو إيضاحات عن المسائل السرية بطبيعتها، أو بمقتضى تعليمات كتابية صادرة عن الجهة المختصة، أو يفشي المعلومات الخاصة بالوقائع التي تتصل بعلمه بحكم عمله، أو ينشر الوثائق أو المستندات أو صورها المتعلقة بنشاط هيئة الشرطة، أو أساليب عملها في مجال المحافظة على سلامة وأمن الدولة، ويستمر هذا الالتزام قائما بعد انتهاء الخدمة. …
(2) أن يفضي بأي تصريح أو بيان عن أعمال وظيفته عن طريق الصحف أو غير ذلك من طرق النشر إلا إذا كان مصرحا له بذلك من الرئيس المختص([1]).
(3)…
(4) أن يخالف إجراءات الأمن الخاص والعام التي يصدر بها قرار من وزير الداخلية([2]).
(5)…”.
ومفاد النصوص المتقدمة –وبالقدر اللازم للفصل فى الطعن- أن المشرع في قانون الشرطة المشار إليه قد ناط بهيئة الشرطة بحسبانها هيئة مدنية نظامية المحافظة على كل من النظام والأمن العام والآداب، وحماية الأرواح والأعراض والأموال ومنع الجرائم وضبطها، والعمل على كفالة الطمأنينة والأمن العام في جميع المجالات، وتنفيذ ما تفرضه عليها القوانين واللوائح من واجبات، وأوجب المشرع أن يؤدي ضابط الشرطة عند التعيين وقبل مباشرة مهام عمله يمينا أمام وزير الداخلية يقسم فيه بالله العظيم أن يحافظ على النظام الجمهوري، وأن يحترم الدستور والقانون، وحظر المشرع على الضابط أن يفضي بأسرار عمله التي اتصلت بعلمه بحكم عمله، أو ينشر الوثائق والمستندات التي تنطوي على أنشطة هيئة الشرطة، أو يفضي إلى وسائل النشر المختلفة مسموعة أو مقروءة أو مرئية بأي تصريح أو بيان عن أعمال وظيفته الشرطية، سواء من حيث طبيعتها أو المهام الموكولة إليها، أو كيفية أدائها، وبكل ما يتعلق بذلك جملة وتفصيلا، إلا أن يأذن له في ذلك رئيسه المختص.
وحيث إن الثابت من الأوراق أن الطاعن حصل على بكالوريوس قسم الصحافة من جامعة القاهرة سنة 1988، والتحق بكلية الشرطة- قسم الضباط المتخصصين، وتخرج سنة 1989 برتبة ملازم أول، وتدرج في وظائف الشرطة حتى شغل رتبة مقدم، وحصل على درجة الدكتوراه في الإعلام والاتصال من كلية الآداب بجامعة الإسكندرية، وموضوعها: (الحرية المطلقة للحق في التعبير)، وهو ما تم تكريمه بسببه سنة 2005، وفي عددها الصادر بتاريخ 18/5/2009 أجرت معه جريدة صوت الأمة حوارا صحفيا جاء عنوانه الرئيس: “لأول مرة من بين صفوف المعارضين في مصر ضابط شرطة مازال في الخدمة، المقدم شرطة… يصف وزير الداخلية (مستشار الخوف) فى روايته (العزبة) التي نشرت سنة 1997 التي انتقدت توريث الحكم لابن الرئيس بعبارة: هي كانت عزبة أبوك؟ لا يوجد في قانون الشرطة ما يمنع الضابط من حرية التعبير”، وبعد هذه العناوين أو معها قام المحرر لهذا اللقاء بالتعريف بالطاعن وبيان تاريخه الوظيفي، ثم دلف إلى ما يبغيه من حواره بأنه وقعت في يده رواية من تأليفه لم تطرح في الأسواق وهي رواية (العزبة)، والتي تناولت إسقاطا سياسيا على نظام الحكم في مصر والتوريث، وتنتهي الرواية باندلاع حرب أهلية بين النظام الحاكم والشعب، وأضاف المحرر في تقديمه للحوار أن اسم الضابط (الطاعن) تردد في الإعلام مؤخرا عندما أقدم على خطوة فاجأت وزارة الداخلية حين أقام دعوى أمام القضاء الإداري ضد وزارة الداخلية دفع فيها بعدم دستورية المادة المانعة لضباط الشرطة من الإدلاء بأصواتهم في الانتخابات العامة، ثم جاء الحوار على النحو التالي:
بسؤال الطاعن عما إذا كان معارضا للنظام رغم حساسية وظيفته كضابط شرطة؟ أجاب: “حقوقي الدستوريةكمواطن تتيح لي حق التعبير والاعتقاد والتفكير، ولا يوجد في قانون الشرطة وخصوصا المادة (42) بكل محظوراتها ما يمنع الضابط من حرية التعبير عن آرائه وأفكاره حتى لو اختلف مع النظام، مادامت لا تمثل خروجا على الدستور والقانون، ولا تتعلق بوقائع خاصة بأعمال وظيفته، وبالفعل فإن أفكارى تختلف مع الكثير من ممارسات النظام”.
وبسؤاله: “إذن أنت ضابط معارض للسلطة التي تمثلها؟” أجاب: “يقسم الضابط يوم التخرج على احترام الدستور والقانون، وعلى الحفاظ على النظام الجمهوري، وبالتالي أنا لا أمثل السلطة، وإنما أمثل الدستور والقانون، ومن يخرج على الدستور يخلع بذلك الشرعية من فوق أكتاف السلطة التي يمثلها”.
وبسؤاله: “وماذا عن روايتك (العزبة) وما تحويه من إسقاط سياسي وهجوم حاد على النظام؟” أجاب: الرواية تحكي قصة شاب ارتبط بعلاقة بفتاة من عالم الجن ويذهب معها في رحلة إلى عالمها، ويفاجأ بحاكم طاغية ومجتمع تم تقسيمه إلى فئات: الشياطين وهم المستبدون الفاسدون، والصالحون وهم دعاة الإصلاح والعدل والمساواة، والجائرون وهم المتطرفون فكريا وعمليا، والسناكيح وهم الأغلبية المقهورة الصامتة، وتعرضت الرواية للعلاقات المتشابكة بين هذه الفئات، وما ستؤدي إليه من ثورة شعبية يتم مواجهتها بقمع دموي، وتنتهي الرواية بنهاية مفتوحة لكل الاحتمالات”.
وبسؤاله عن سبب إطلاقه اسم (مستشار الخوف) في الرواية على وزير داخلية الحاكم الطاغية؟ أجاب: “لا يمكن تفسير روايتي، وإنما أترك هذا للنقاد والقراء، وأقدم ذلك التفسير من صلب الرواية ذاتها، حيث يقول مستشار الخوف إنه أيقن منذ البداية أن الأمن الذي ينشده الحاكم ليس إلا أمنه هو وليس أمن الشعب، لذا وطد عزمه تماما على امتلاك ناصية ذلك الجبار من خلال هاجس الأمن، فتحت مسمى الأمن يمكن أن يصول ويجول في هذا البلد طولا وعرضا فيتحكم في العباد، وينشر الخوف أو يمنح الأمان”.
وبسؤاله عن كيفية تناوله التوريث في روايته؟ أجاب: “إن الحدث المحوري في الرواية يتمثل في إطلاق صوت مجهول في أرجاء البلد الذى تدور فيه الرواية، وهذا الصوت الذي يتكرر انطلاقه بعد ذلك طوال أحداث الرواية يردد عبارة واحدة من أربع كلمات هي: (هي كانت عزبة أبوك)، وبسبب هذا الصوت لن يتم توريث الحكم لابن الحاكم”.
وبسؤاله: “وماذا عن الواقع؟ وهل أنت ضد التوريث؟ أجاب: “إن النظام الجمهوري الذي أقسمت على الحفاظ عليه يوم تخرجي في كلية الشرطة لا يعترف بالتوريث، وإنما فقط الأنظمة الملكية هي التي تقر التوريث، وتجعله مشروعا، وبالتالي أنا أدافع عن النظام الجمهوري”.
وبسؤاله عن رأيه بشكل مباشر كضابط شرطة في النظام السياسي الذي يحكم مصر؟ أجاب: “إن هذا البلد لن يتقدم إلا من خلال الحكم الليبرالي بجانبه السياسي المتمثل في الديمقراطية، وجانبه الاقتصادي المتمثل في اقتصاد السوق، وجانبه الاجتماعي المتمثل في الإيمان بحرية الإنسان، والحكم الليبرالي لن ينجح إلا بتطبيق هذه الجوانب مجتمعة، وللأسف مازلنا بعيدين حتى عن الحكم الليبرالي بمعناه الحقيقي”.
وبسؤاله عن الحل من وجهة نظره؟ أجاب: “إن الحل يكمن في التبادل السلمي للسلطة من خلال وضع سقف زمني (فترة واحدة أو اثنتين على الأكثر) لمن يتولى أي منصب حكومي”.
وبسؤاله عما سيقوله لوزير الداخلية لو جلس معه؟ أجاب: “بكل احترام سأقول لسيادته بأنه قد آن الأوان لأن ينال ضباط الشرطة حقهم في التصويت الانتخابي الذي تم حرمانهم من ممارسته طوال 24 عاما، وأضاف أنه أقام الدعوى رقم 10215 لسنة 63 ق إداري بالمطالبة بإحالتها إلى المحكمة الدستورية العليا للفصل في الطعن بعدم دستورية المادة الأولى من قانون مباشرة الحقوق السياسية التي تمنع الضباط من التصويت في الانتخابات”.
وبسؤاله: كيف تطالب بتصويت ضباط الشرط في الانتخابات وهم أصلا من يسيطرون على الصناديق، ويقومون بتزويرها وهم ليسوا مخولين بذلك، فما بالنا لو أتيحت لهم الفرصة وبالقانون؟ أجاب: “الطعن في نزاهة ضباط الشرطة هو أمر ينال من وظيفة جهاز الأمن في المجتمع ككل، وفي تقديري أن السبب المسئول عن إهدار أجهزة الأمن الدستور والقانون في الدول غير الديمقراطية في مقابل التزامها بالأوامر والتعليمات يتمثل في حرمان ضباط تلك الأجهزة من التصويت الانتخابي بما يؤدي إلى عزلتهم وتهميشهم، وينال من قدرتهم على الاختيار والتأثير في حاضر المجتمع ومستقبله، وبالتالي تصبح هذه الأجهزة في معية السلطة، وتعزل بعيدا عن صفوف الشعب…”.
وبسؤاله عما إذا كان يرى أن ما يطالب به أمرا واقعيا؟ أجاب: “إن مشاركة ضباط الشرطة في التصويت الانتخابي قد باتت منذ زمن من المسلمات في الدول الديمقراطية، بل إن الانتخابات التي أجريت مُؤخرا في كل من الضفة الغربية وقطاع غزة والعراق، وهي دول عربية مجاورة، قد كفلت لضابط الشرطة حق التصويت”.
وبسؤاله: كيف يكون توسيع قاعدة المشاركة السياسية بحيث تضم كل الفئات يمثل حصن الأمان لاستقرار أي مُجتمع؟ أجاب: “إن أغلب الدراسات السيكولوجية والسلوكية تثبت أن العزلة والتهميش لأية فئة في أي مُجتمع يؤدي بها إما إلى الانقلاب على السلطة من خلال معاداتها سرا أو علنا، أو التواطؤ مع السلطة للحصول على أكبر قدر من النفوذ المسلوب”.
وحيث إنه يبين من الاستعراض المتقدم للحوار الصحفي الذي أجري مع الطاعن أنه جاء خلوا من الخوض في أعمال ومسئوليات وأسرار هيئة الشرطة، بل جاء فى إطار ما أثارته رواية (العزبة) التي ألفها المذكور من جدل، وكذلك ما استرعى انتباه الصحافة من إقامته (وهو ضابط شرطة) دعوى قضائية مختصما فيها كلا من رئيس الجمهورية ووزير الداخلية طلبا لإقرار حق ضباط الشرطة في التصويت في الانتخابات، كما أنه من ناحية أخرى فإن إجاباته على ما وجه إليه من أسئلة وإن عرجت على روايته (العزبة) بما تحويه من رمزيات وإيحاءات، فإن أيا من هذه الإجابات لم تصف نعتا وزير الداخلية بـ (مستشار الخوف)، أو تنازع ابن الرئيس وراثة الحكم قولا بأنه “هي كانت عزبة أبوك؟”، وإنما جاء كل ذلك في معرض تناوله لأحداث ووقائع الرواية، وهذه وتلك جاء بها المحرر وسطرها عناوينَ للحوار، انتزعها انتزاعا، واجتزأها من إجابات الطاعن، موردا إياها (العناوين) في غير سياقها؛ ذلك أن الطاعن قد تمت محاورته ليس على أنه ضابط شرطة فحسب، بل وقبل ذلك على اعتبار أنه كاتب ومفكر ومؤلف لرواية، ثم إنه ولج باب القضاء طلبا للحكم بتمكين ضباط الشرطة من التصويت في الانتخابات وإلغاء الخطر المعروض عليهم.
وإذا كانت حرِّية الرأي مكفولة لكل إنسان للتعبير عن رأيه ونشره بالقول أو الكتابة أو التصوير أو غير ذلك من وسائل التعبير في حدود القانون، فذلك أصل دستوري حرصت الدساتير المصرية المتعاقبة على صونه وكفالته، وكذلك كفالة حرية البحث العلمي والإبداع الأدبي والفني والثقافي، وتوفير وسائل التشجيع اللازمة لتحقيق ذلك، كما أن التقاضي حق مكفول، إذ لكل إنسان اللجوء إلى قاضيه الطبيعي، وإذ كانت هذه الأصول قد غدت مسلمات دستورية، وإذ خطا الطاعن في مضمار البحث العلمي خطوات توجها بالحصول على درجة الدكتوراه في الأدب، وكرمته وزارة الداخلية مكافأة له على ذلك بمنحه شهادة تقدير سنة 2005، ثم سار في الدرب خطوات أخرى في مضمار الإبداع الأدبى بأن ألَّف رواية (العزبة) بما تحمله من رؤى فكرية، وما تحويه من إيحاءات رمزية، كما ولج باب التقاضي طلبا لما يظنه حقا دستوريا، ألا وهو حق ضابط الشرطة في التصويت في الانتخابات من خلال المخاصمة القانونية والدستورية للنص المانع من ذلك، فإذا ما قصدته الصحافة طلبا لمحاورته حول هذه المسائل وقد لبى طلبها إعمالا لحقه الدستوري في حرية التعبير، ليس عن أسرار عمله أو مقتضاها أو طبيعته أو محتواها، وإنما كمبدع أو كمتقاضٍ، وهو في هذا وذاك مواطن يدلي بدلوه في الهم أو الشأن العام، وإذ جاء إعماله لأي من هذه الحقوق أو الرخص الدستورية خاليا من الإساءة إلى الهيئة التي ينتمي إليها (وهي هيئة الشرطة) أو الوزير الذي يتربع على سدتها، كما خلت من المساس بهيبة النظام أو الإسقاط عليه، بل جاءت جميعها في حدود التعبير عن رؤيته وروايته؛ فمن ثم يكون قرار مجلس التأديب المطعون فيه إذ ركن إلى أن الحوار الصحفي محل المساءلة كان في صميم أعمال وأنشطة هيئة الشرطة، وانتهى إلى ثبوت المخالفة المسندة إلى الطاعن في شأنه، ومجازاته تأديبيا عنها، فإنه يكون قد استخلص استخلاصا غير سائغ، وانتزع من أصول لا تنتجه واقعا وقانونا، مما يصمه بمخالفة القانون، ويذره مستوجب الإلغاء، وبراءة الطاعن مما أسند إليه.
وحيث إنه لا ينال مما تقدم ما ساقه القرار المطعون فيه تسويغا لقضائه بإدانة الطاعن من أنه لم يلتزم بحرفية التعليمات الصادرة عن وزارة الداخلية المانعة لضباط الشرطة من الإدلاء بأحاديث صحفية قبل استئذان رئاستهم؛ فذلك مردود بأن القرار المطعون فيه نفسه إذ ألمح صراحة أن للمُخالف الحق في حرية الكلمة والتعبير عن رأيه بحسبانها من الحريات الأساسية المكفولة دستوريا، فما كان له بعد ذلك أن ينقلب على عقبيه نكوصا عما قرر من ضمانة مستحقة للطاعن التماسا لتعليمات ينقض بها تلك الضمانة، وهي لا تعدو (التعليمات) أن تكون سرابا يحسبه الظمآن ماء، حتى إذا جاءه لم يجده شيئا، إذ لا يسوغ أن تنهض تلك التعليمات نِدَّا للأسس الدستورية التي كفلت حرية التعبير، أو للقواعد والنصوص القانونية الواردة بقانون هيئة الشرطة التي عددت المحظورات؛ تأسيا بالقاعدة المستقرة في الفكر الإنساني والشرائع السماوية، وهي أن الأصل في الأشياء الإباحة، ولا محظور إلا بنص، وإذ لم يرد بهذه الأصول أو تلك حظر على حرية الضابط في التعبير عن رأيه -في غير مجال عمله الشرطي- في مجال الإبداع الفني أو الأدبى أو العلمي أو حقه في التقاضي كمواطن، فلا تثريب على الطاعن إذا أعمل هذه الحريات، فأجاب طلب الصحافة إجراء حوار معها حول تلك الأمور.
كما لا يسعف القرار المطعون فيه نعيه على الطاعن الخروج في مجال ممارسة حرية التعبير على الحدود المقررة نيلا من رموز الدولة من خلال إسقاطات سياسية تذرعا بالتعليق الصحفي على عمل أدبي من صنيعه، أو بوصفه لضباط الشرطة بالفئة المهمشة أو المعزولة، أو أن يكون سببا يسمح لمن أجرى معه الحوار أن يصطنع منه ما يشاء من عناوين تتمثل الإساءة وتثير البلبلة؛ فذلك مردود بأن ما ورد على لسان الطاعن على النحو السابق سرده لم ينطوِ بأي حال على نيل من رموز الدولة من خلال إسقاطات سياسية، إذ إنه لم يقل شيئا في هذا الخصوص سوى سرد ما ورد بروايته من شخوص أو أحداث، أما كونها قد التقت اتفاقا مع واقع الحال السياسي أو اختلافا، فإن مرجع ذلك هو الإبداع الفني للرواية في غمار الحرِّية التي تتسع لذلك، وليس رأي الطاعن في هذا الواقع أو تلك الرموز، حيث انتزع المحرر الذي أجرى الحوار ما نسبه إليها من أوصاف من سياق الرواية أو التعليق عليها، وليس من رأي الطاعن، مما لا يسوغ مؤاخذته عنها.
كما أن وصفه لضباط الشرطة بالفئة المهمشة أو المعزولة لم يكن نصا في الحديث أو قصدا إليهم بأنهم كذلك، بل كان في سياق الإشارة إلى نتيجةٍ، هي التهميش، لعلةٍ أو لسببٍ، وهو حرمانهم من التصويت الانتخابي، الذي لجأ إلى القضاء طلبا لإلغاء حظره، مما لا يستقيم معه لهذا النعي حجة أو ذريعة.
أما قوله في معرض إجابته عن سؤال بأنه يمثل النظام السياسي، بأنه أقسم على احترام الدستور والقانون والحفاظ على النظام الجمهوري، ومن ثم فهو يمثل الدستور والقانون، ولا يمثل السلطة التي عليها الالتزام بالدستور، وإلا خلعت عنها ثوب الشرعية، -ما قاله في هذا الصدد- هو ترديد لأصول قانونية ينبغي عليه وعلى أمثاله التمسك بأهدابها والسير على هداها.
أما مقولة اختلافه في بعض الأفكار مع النظام القائم فإنها جاءت في إطار من التعبير المكفول في إطار ما عرضه من أفكار ورؤى بحديثه الصحفي عن رواية برمزياتها، أو دعواه القضائية بغاياتها، وهذه وتلك لا تخرج عن حق التعبير المكفول دستوريا.
حكمت المحكمة بقبول الطعن شكلا، وفي الموضوع بإلغاء الحكم المطعون فيه، وببراءة الطاعن مما أسند إليه.
([1]) تم تعديل نص هذه الفقرة بموجب القانون رقم 64 لسنة 2016 بتعديل بعض أحكام قانون هيئة الشرطة، وأصبح نصها: “2- أن يُفضي بأي تصريح أو بيان عن أعمال وظيفته بأية وسيلة من وسائل الإعلام أو النشر أو الإتاحة إلا إذا كان مصرحا له بذلك كتابةً من الجهة التي يحددها وزير الداخلية”.
([2]) تم تعديل نص هذه الفقرة بموجب القانون رقم 64 لسنة 2016 بتعديل بعض أحكام قانون هيئة الشرطة، وأصبح نصها: “4- أن يخالف إجراءات الأمن الخاص والعام التي يحددها وزير الداخلية”.