جلسة 19 من أبريل سنة 2008
(الدائرة الخامسة)
الطعنان رقما 4391 و 8770 لسنة 53 القضائية عليا.
– ضباط- تأديب– الاعتراف والشهادة– سلطة المحكمة في الأخذ بهما.
الاعتراف سواء في المسائل التأديبية أو الجنائية من عناصر الاستدلال، فتملك المحكمة الأخذَ باعتراف المتهم، سواء في حق نفسه أو غيره من المتهمين في أية مرحلة من مراحل التحقيق أو المحاكمة ولو عَدَل عنه بعد ذلك، وكذا البحثَ في صحة ما يدعيه في اعترافه، وتجزئتَه والأخذَ بما تطمئن إليه متى تحققت أن هذا الاعتراف سليم مما يشوبه، واطمأنت إلى مطابقته للحقيقة والواقع، ولها في سبيل ذلك أن تأخـــذ أيضا بما تطمئن إليه من أقوال الشهود، وأن تطرح ما عداها مما لا تطمئن إليه فيها؛ بحسبان أن الشهادة في الأصل هي تقرير الشخص لما قد يكون قد رآه أو سمعه بنفسه أو أدركه على وجه العموم بحواسه- وَزْن أقوال الشاهد وتقدير الظروف التي تُؤدَّى فيها شهادته مرجعه إلى محكمة الموضوع، فلها أن تنزلها المنزلة التي تراها وتقدرها التقدير الذي تطمئن إليه، وبمراعاة أنه لا يشترط في شهادة الشاهد أن تكون واردة على الحقيقة المراد إثباتها بأكملها وبجميع تفاصيلها على وجه دقيق، بل يكفي أن يكون من شأنها أن تؤدي إلى تلك الحقيقة باستنتاج سائغ تجريه المحكمة بما يتلاءم به ما قاله الشاهد بالقدر الذي رواه مع عناصر الإثبات الأخرى المطروحة أمامها، ومن ثم فإنه لا تثريب عليها إن هي استندت في حكمها إلى الأخذ بأقوال الشهود، دون أن تلتزم –بحسب الأصل– بأن تورد من أقوال الشهود إلا ما تقيم عليه قضاءها، ولها أن تُعوِّل على أقوال الشاهد في أية مرحلة من مراحل التحقيق أو الدعوى متى اطمأنت إليها ولو عَدَل عنها، ومتى كان من شأنها أن تؤدي إلى ما رتبه الحكم عليها، وأن في اطمئنانها إلى هذه الأقوال ما يفيد أنها قد طرحت ما أُبديَ أمامها من دفاع قصد به التشكيك في صحة هذه الأقوال– تطبيق.
– ضباط- تأديب– الانقطاع عن العمل دون إذن- عدم قبول الادعاء باستعمال حق شخصي كسبب لنفي المسئولية التأديبية في حالة عدم وجود نص قانوني يقرر ذلك الحق.
المادة (60) من قانون العقوبات.
يجب لاستعمال الحق الشخصي كسبب من أسباب الإباحة توافر عدة شروط، في مقدمتها أن يكون هناك حق مقرر بمقتضى القانون، فلا يقف مصدر هذا الحق على ما تقرره الشريعة الإسلامية من حقوق شخصية، وإنما يمتد إلى كل حق شخصي مقرر قانونا ([1])– لئن كانت لضابط الشرطة مصلحة مشروعة في علاج ابنته، إلا أن انقطاعه عن العمل بغير إذن لأجل ذلك يشكل جريمة تأديبية، فلا يوجد نص يبيح هذا الانقطاع عند توافر مثل هذه الحالة- أساس ذلك: أنه لا يتقرر حق إلا بمقتضى قاعدة قانونية أيا كان مَصدرها، ومن ثم لا يُقبل من الشخص أن يقرر لنفسه حقا غير منصوص عليه قانونا وأن يستعمله بناء على ذلك- تطبيق.
أولا– إجراءات الطعن رقم 4391 لسنة 53 ق. عليا:
في يوم الأحد الموافق 14/1/2007 أودع الأستاذان/… و … المحاميان بصفتيهما وكيلين عن الطاعن قلم كتاب المحكمة الإدارية العليا تقريرا بالطعن قيد بجدولها العمومي تحت رقم 4391 لسنة 53 ق. عليا في القرار الصادر عن مجلس التأديب الاستئنافي لضباط الشرطة في الاستئناف رقم 301 لسنة 2005 بجلسة 18/11/2006 القاضي منطوقه: “قبول الاستئنافين شكلا، وفي الموضوع بإلغاء القرار المستأنف فيما انتهى إليه من براءة الضابط المستأنف ضده في المخالفتين السابعة والثامنة المنسوبتين إليه بقرار الإحالة وإدانته عنهما، ومجازاته عما نسب إليه بقرار الإحالة وثبت في حقه بغرامة تعادل خمسة أمثال أجره الأساسي الذي كان يتقاضاه وقت وقوع المخالفات”.
وطلب الطاعن –للأسباب الواردة بتقرير الطعن– الحكم بقبول الطعن شكلا وفي الموضوع بإلغاء القرار المطعون فيه وإلغاء كافة ما ترتب عليه من آثار.
ثانيا– إجراءات الطعن رقم 8770 لسنة 53 ق. عليا:
في يوم الثلاثاء الموافق 20/3/2007 أودع الأستاذ/… المحامي بصفته وكيلا عن الطاعن قلم كتاب المحكمة الإدارية العليا تقرير طعن قيد بجدولها برقم 8770 لسنة 53ق.عليا في ذات القرار.
وطلب الطاعن –للأسباب المبينة بتقرير الطعن- الحكم بقبول الطعن شكلا، وبصفة مستعجلة بوقف تنفيذ القرار المطعون فيه وفي الموضوع بإلغائه مع ما يترتب على ذلك من آثار.
وجرى إعلان تقريري الطعنين إلى المطعون ضده على النحو الثابت بالأوراق.
وقدمت هيئة مفوضى الدولة تقريرا مسببا بالرأي القانوني في الطعنين ارتأت فيه الحكم بقبول الطعنين شكلا، وفي الموضوع بإلغاء القرار المطعون فيه، والقضاء مجددا بإعادة أوراق الاستئناف رقم 301 لسنة 2005 إلى مجلس التأديب الاستئنافي لضباط الشرطة للفصل فيه مجددا من هيئة مغايرة.
وحددت لنظر الطعنين أمام دائرة فحص الطعون بهذه المحكمة جلسة 11/6/2007 وتدوول بالجلسات على النحو الثابت بمحاضرها، حيث قررت المحكمة خلالها ضم الطعن رقم 8770 لسنة 53 ق. عليا إلى الطعن رقم 4391 لسنة 53 ق.عليا للارتباط وليصدر فيهما حكم واحد، وبجلسة 10/3/2008 قررت تلك الدائرة إحالة الطعنين إلى المحكمة الإدارية العليا– الدائرة الخامسة موضوع، وحددت لنظرهما أمامها جلسة 22/3/2008 ونظرت المحكمة الطعنين بهذه الجلسة على النحو الثابت بمحاضرها، وبذات الجلسة قررت المحكمة إصدار الحكم بجلسة 19/4/2008 مع التصريح بتقديم مذكرات لمن يشاء خلال أسبوع، وبتاريخ 26/3/2008 أودع الطاعن مذكرة بدفاعه في الطعنين صمم في ختامها على الحكم -بصفة أصلية- بطلباته الواردة بعريضة الطعن, واحتياطيا: إحالة الدفع بعدم دستورية نص المادة 56 من قانون الشرطة رقم 109 لسنة 1971 إلى المحكمة الدستورية العليا للفصل فيه أو التصريح للدفاع بذلك، وبجلسة اليوم صدر الحكم وأودعت مسودته المشتملة على أسبابه ومنطوقه لدى النطق به.
بعد الاطلاع على الأوراق، وسماع الإيضاحات، وبعد المداولة قانونا.
من حيث إنه عن شكل الطعن رقم 4391 لسنة 53 ق. عليا فإنه لما كان الثابت من مطالعة الأوراق أن القرار الطعين صدر بجلسة 18/11/2006 وأقيم الطعن بتاريخ 14/1/2007 أي خلال الميعاد القانوني، واستوفى الطعن سائر أوضاعه الشكلية الأخرى.
ومن حيث إنه عن شكل الطعن رقم 8770 لسنة 53 ق. عليا فإنه لما كان القرار المطعون فيه سالف الذكر صدر في 18/11/2006، وبتاريخ 14/1/2007 تقدم الطاعن بطلب الإعفاء من الرسوم القضائية وقيد برقم 62 لسنة 53 ق. عليا، وتقرر قبوله بجلسة 20/1/2007، وأودع تقرير الطعن قلم كتاب المحكمة الإدارية العليا في 20/3/2007 ومن ثم يكون قد أقيم في الميعاد، وإذ توافرت سائر أوضاعه الشكلية.
ومن حيث إن عناصر النزاع تخلص حسبما يبين من القرار المطعون فيه وسائر الأوراق الأخرى في أنه بتاريخ 21/12/2004 صدر قرار وزير الداخلية رقم 487 لسنة 2004 بإحالة النقيب/ … الضابط بمديرية أمن الفيوم (الطاعن) إلى مجلس التأديب الابتدائي لضباط الشرطة لمحاكمته تأديبيا لأنه بوصفه موظفا عاما (ضابط شرطة) ارتكب ما يلي: الخروج على مقتضى الواجب الوظيفي والإخلال به، ومخالفة التعليمات، والسلوك المعيب بأن:
1- انقطع عن العمل بدعوى المرض لمدة 46 يوما خلال الفترة من 15/2/2004 حتى 25/2/2004 ( لمدة 11 يوما) ومن 9/6/2004 حتى 8/7/2004 (لمدة 30 يوما) والفترة من 24/7/2004 حتى 28/7/2004 (لمدة 5 أيام) والتي لم يحتسبها المجلس الطبي المتخصص لهيئة الشرطة إجازات مرضية، ورفض لجنة تظلمات السادة الضباط تظلماته من قرارات المجلس الطبى لتخلفه عن المثول أمامها بجلسات 24/5/2004 و1/9/2004 و13/10/2004 رغم إعلانه شخصيا بمواعيد تلك الجلسات.
2- تغيب عن العمل يوم 8/6/2004، ويومي 9 و 10/7/2004، ويومي 13 و 14/7/2004، ويوم 29/7/2004، ويومي 14و 17/8/2004، ويومى 26 و 27/8/2004 دون إذن أو مسوغ قانوني.
3- تأخر في الحضور إلى العمل لمدة أربع ساعات وثلاثين دقيقة يوم 11/7/2004 ولمدة خمس ساعات وخمس عشرة دقيقة يوم 30/7/2004 دون إذن أو مبرر.
4- عدم قيامه بالدورية الليلية المقررة عليه الساعة 15: 9م يوم 21/8/2004 دون مبرر.
5- عدم سداده المديونية المستحقة عليه للبنك الأهلي المصري وقدرها 4252,52 والتي قام باقتراضها بموجب بطاقة الائتمان الخاصة به (الفيزا كارد) حتى تاريخه رغم تعهده بالسداد، الأمر الذي أساء إلى الهيئة التي ينتمي إليها.
6- شرائه كمية من اللحوم من المواطن/ … صاحب محل جزارة بدائرة عمله بمركز شرطة أطسا، والتي بلغ ثمنها سبعين جنيها، ومماطلته في السداد رغم مطالبة المواطن المذكور له بالثمن وعدم قيامه بالسداد إلا عقب علمه بسؤال الدائن سالف الذكر بالتحقيقات وعلى النحو الوارد بالتحقيقات والمعلومات.
7- حصوله من المواطن/ … صاحب محل اتصالات بدائرة عمله بمركز شرطة أطسا على سرير وبوتاجاز مستعملين يقدر ثمنهما بمبلغ مئتي جنيه لاستخدامهما بالاستراحة الحكومية المخصصة له دون سداد ثمنهما وإعادتهما للمواطن المذكور عقب نقله إلى ديوان مديرية أمن الفيوم، مما أحط من قدره وأساء إلى الهيئة التي ينتمى إليها، وعلى النحو الوارد بالتحقيقات والمعلومات.
8- تردده على مقهى المواطن/ … الكائن بمدينة أطسا دائرة عمله وجلوسه به لاحتساء المشروبات وتدخين النرجيلة بها، الأمر الذي أساء إليه وإلى الهيئة التي ينتمي إليها، وعلى النحو الوارد بالتحقيقات والمعلومات.
وقد قيدت الأوراق بسجلات مجلس التأديب الابتدائي بدعوى تأديبية برقم 487 لسنة 2004 وتدوولت بالجلسات أمامه على النحو الموضح بمحاضرها إلى أن قضى بجلسته المنعقدة في 22/5/2005 ببراءة الضابط المحال في المخالفتين السابعة والثامنة وإدانته في باقي المخالفات المنسوبة إليه بقرار الإحالة ومجازاته عنها بالوقف عن العمل لمدة ستة أشهر.
وإذ لم يلق هذا القرار قبولا لدى كل من وزارة الداخلية والطاعن فقد أقامت الأولى استئنافا لهذا القرار أمام المجلس التأديبي الاستئنافي لضباط الشرطة قيد برقم 301 لسنة 2005،كما أقام الآخر استئنافاً مقابلا قيد بذات الرقم، ونظرهما مجلس التأديب الاستئنافي على النحو الموضح بمحاضر جلساته، إلى أن أصدر بجلسته المنعقدة في 18/11/2006 قراره المطعون فيه القاضي بقبول الاستئنافين شكلا وفي الموضوع بإلغاء القرار المستأنف فيما انتهى إليه من براءة الضابط المستأنف ضده في المخالفتين السابعة والثامنة المنسوبتين إليه بقرار الإحالة وإدانته عنهما ومجازاته عما نسب إليه بقرار الإحالة وثبت في حقه بغرامة تعادل خمسة أمثال أجره الأساسي الذي كان يتقاضاه وقت وقوع المخالفات.
وشيد مجلس التأديب قضاءه بالنسبة للمخالفتين السابعة والثامنة تأسيسا على ثبوتهما في حق الطاعن بشهادة الشهود، كما أقام قضاءه بالنسبة لباقي المخالفات أخذا بذات الأسباب التي بني عليها القرار المستأنف، وذلك على النحو الوارد تفصيلا بأسباب القرار الطعين، وأضاف بشأن تقدير الجزاء الموقع أنه نظراً لصدور القرار الوزارى رقم 793 لسنة 2005 بإنهاء خدمة الضابط المستأنف من وزارة الداخلية بالإحالة للمعاش اعتباراً من 23/6/2005 فإنه يرى تعديل القرار المطعون فيه إلى تغريم الضابط المستأنف ضده خمسة أمثال أجره الأساسي الذي كان يتقاضاه وقت وقوع المخالفات.
ومن حيث إن مبنى الطعن رقم 4391 لسنة 53 ق عليا أن القرار الطعين قد شابه القصور في البيان والمتمثل في عدم رده على الدفوع الجوهرية التي تقدم بها الدفاع وكذا الخطأ في تطبيق القانون وذلك على النحو المبين تفصيلا بتقرير الطعن.
كما أقيم الطعن رقم 8770 لسنة 53 ق.عليا على أسباب حاصلها مخالفة القرار المطعون فيه القانون والخطأ في تطبيقه وتأويله والقصور في التسبيب والغلو في توقيع الجزاء وعدم تناسبه مع الذنب الإداري، ومعاقبة الطاعن عن الذنب الإداري مرتين، والإخلال بحق الدفاع والفساد في الاستدلال والاستنتاج دون مسوغ قانوني، وذلك للأسباب الواردة تفصيلا بتقرير الطعن.
ومن حيث إنه عن الدفع المبدى من الطاعن ببطلان القرار الطعين بدعوى أن مجلس التأديب الذي أصدر القرار الطعين كان مشكلا برئاسة اللواء … الذي كان يشغل وظيفة مساعد الوزير، ولم يكن مساعد أول الوزير طبقا لنص المادة 61 من قانون الشرطة رقم 109 لسنة 1971، كما أنه لم يكن هو أقدم مساعدي الوزير ولا وجه لكل ذلك لأن الأصل في الأحكام القضائية أو القرارات هو اعتبار الإجراءات المتعلقة بالشكل أنها قد روعيت وقد تمت صحيحة ما لم يقم الدليل على خلاف ذلك، وإنه ليس معنى عدم إثبات الإجراء بأوراق الدعوى أنه قد أهمل أو خولف، فالمفروض أنه تم صحيحا نزولا على مقتضى الأصل في الإجراءات أنها قامت صحيحة، وعلى مدعي البطلان أن يثبت بكافة طرق الإثبات مخالفة الإجراء، وذلك إذا لم يكن هذا الإجراء قد تم إثباته في محضر الجلسة أو في الحكم.
ولما كان الثابت من مطالعة محاضر جلسات مجلس التأديب الاستئنافي لضباط الشرطة الذي نظر الاستئناف رقم 301 لسنة 2005 موضوع الطعن الماثل أن أول تشكيل له كان برئاسة اللواء … مساعد أول وزير الداخلية للأمن، وحددت أمامه جلسة 11/12/2005 لنظر هذا الاستئناف، وتدوول أمامه بالجلسات على النحو الثابت بمحاضرها، وبجلسة 14/2/2006 نظر الاستئناف بهيئة مغايرة برئاسة اللواء دكتور/ …. مساعد وزير الداخلية للشئون الإدارية وبجلسة 18/11/2006 نظر الاستئناف بهيئة أخرى مغايرة برئاسة اللواء… مساعد وزير الداخلية لقطاع الأفراد، وبذات الجلسة صدر القرار الطعين، ولما كان الثابت من الأوراق أن مجلس التأديب الاستئنافي الذي أصدر القرار الطعين كان مشكلا برئاسة مساعد أول وزير الداخلية ثم أقدم مساعدي الوزير ثم من يليه، ولم يقدم الطاعن أي دليل على أن من حل محل مساعد أول وزير الداخلية لم يكن هو أقدم مساعدي الوزير، فضلا عن أن عدم إثبات المانع بمحضر الجلسة أو القرار الطعين، وكذا عدم إثبات أقدمية الرئاسة الجديدة للمجلس لا يترتب عليه بطلان تشكيل المجلس، ومن ثم فإن تشكيل المجلس المذكور طبقا لما سلف بيانه كافٍ لاعتبار المجلس مشكلا تشكيلا قانونيا صحيحا طبقا لحكم المادة 61 سالفة الذكر وبالتالي يكون هذا الدفع في غير محله جديراً بالرفض.
ومن حيث إنه من المقرر أن الشكاوى والبلاغات والتحريات وإن كانت تصلح لأن تكون سندا لنسبة اتهام إلى من تشير إليه، إلا أن صلاحية هذا السند لتوقيع الجزاء التأديبي على مقترف الذنب الإداري مرهون بأن تقوم الجهة الإدارية بإجراء تحقيق تواجه فيه المتهم بما هو منسوب إليه وتحقيق دفاعه وفحص الأدلة ثم استخلاص الذنب الإداري من أدلة قائمة وثابتة في حقه ومستخلصة استخلاصا سائغا من أصول موجودة لها مأخذها الصحيح من عيون الأوراق، والذي يشكل سبباً يسوغ معه للسلطة المختصة بالتأديب الاعتماد عليه في توقيع الجزاء التأديبي.
ومن حيث إن قضاء هذه المحكمة استقر على أنه متى ثبت أن المحكمة التأديبية قد استخلصت النتيجة التي انتهت إليها استخلاصا سائغا من أصول تنتجها ماديا وقانونيا، وكيفتها تكييفا قانونيا سليما، وكانت هذه النتيجة تبرر اقتناعها الذي بنت عليه قضاءها فإنه لا يكون هناك مجال للتعقيب عليها؛ ذلك أن لها الحرية في تكوين عقيدتها من أي عنصر من عناصر الدعوى، حيث إنها تستمد اقتناعها بثبوت الجريمة التأديبية من أي دليل أو قرينة تطمئن إليها من الأدلة المطروحة عليها، ولها أن تعول في تكوين عقيدتها على الأخذ بدليل واحد أو أكثر من دليل، ما دام لم يقيدها المشرع بطريق خاص في الإثبات، فتكون العبرة بما تطمئن إليه من الأدلة السائغة؛ بحسبان أن الأدلة في مجال المواد التأديبية متساندة، ومنها مجتمعة تستخلص المحكمة التأديبية الصورة الصحيحة لواقعة الدعوى، وتستبعد ما يخالفها من صور أخرى، ما دام استخلاصها سائغا مستندا إلى أدلة تبرره مقبولة عقلا ومنطقا، ولها مأخذها الصحيح من الأوراق، بحيث تعتبر هذه الأدلة في مجموعها كوحدة واحدة مؤدية إلى ما قصده الحكم منها ومنتجة في اقتناع المحكمة واطمئنانها إلى النتيجة التي انتهت إليها في حكمها.
ولما كان من المقرر أن الاعتراف –سواء في المسائل التأديبية أو الجنائية – من عناصر الاستدلال، فتملك المحكمة الأخذ باعتراف المتهم سواء في حق نفسه أو غيره من المتهمين في أية مرحلة من مراحل التحقيق أو المحاكمة ولو عدل عنه بعد ذلك، وكذا البحث في صحة ما يدعيه في اعترافه وتجزئته والأخذ بما تطمئن إليه متى تحققت أن هذا الاعتراف سليم مما يشوبه، واطمأنت إلى مطابقته للحقيقة والواقع، ولها في سبيل ذلك أن تأخذ أيضا بما تطمئن إليه من أقوال الشهود، وأن تطرح ما عداها مما لا تطمئن إليه منها، بحسبان أن الشهادة في الأصل هي تقرير الشخص لما قد يكون قد رآه أو سمعه بنفسه أو أدركه على وجه العموم بحواسه، وأن وزن أقوال الشاهد وتقدير الظروف التي تؤدَّى فيها شهادته مرجعه إلى محكمة الموضوع، فلها أن تنزلها المنزلة التي تراها وتقدرها التقدير الذي تطمئن إليه وبمراعاة أنه لا يشترط في شهادة الشاهد أن تكون واردة على الحقيقة المراد إثباتها بأكملها وبجميع تفاصيلها على وجه دقيق، بل يكفي أن يكون من شأنها أن تؤدي إلى تلك الحقيقة باستنتاج سائغ تجريه المحكمة بما يتلاءم به ما قاله الشاهد بالقدر الذي رواه مع عناصر الإثبات الأخرى المطروحة أمامها، ومن ثم فإنه لا تثريب عليها إن هي استندت في حكمها إلى الأخذ بأقوال الشهود دون أن تلتزم بحسب الأصل بأن تورد من أقوال الشهود إلا ما تقيم عليه قضاءها، ولها أن تعول على أقوال الشاهد في أية مرحلة من مراحل التحقيق أو الدعوى متى اطمأنت إليها، ولو عَدَل عنها، متى كان من شأنها أن تؤدي إلى ما رتبه الحكم عليها، وأن في اطمئنانها إلى هذه الأقوال ما يفيد أنها قد طرحت ما أُبدي أمامها من دفاع قُصِد به التشكيك في صحة هذه الأقوال.
ومن حيث إنه بتطبيق ما تقدم على وقائع النزاع الماثل، فإنه لما كان الثابت من مطالعة الأوراق أن المخالفات المنسوبة إلى الطاعن بتقرير الاتهام المنوه عنها سلفا كشفت عنها تحريات إدارة البحث الجنائى بمديرية أمن الفيوم، وأشارت إلى أن ألسنة مواطني بندر أطسا بالفيوم صارت تلوك سمعته وانطلقت بالقول عليه، مما يسئ إليه وإلى أسرته التي كانت تقيم معه باستراحة الحكومة، حيث أشارت المعلومات التي قامت بجمعها أنه منذ التحاقه بالعمل بمركز شرطة أطسا بأمن الفيوم ارتبط بعلاقات مع العديد من المواطنين استطاع من خلالها الاستفادة منهم على النحو التالي: حصوله على كمية من اللحوم تجاوز ثمنها سبعين جنيها من المواطن/ … صاحب محل جزارة بمدينة أطسا ولم يسدد ثمنها رغم مطالبة الأخير له أكثر من مرة وحصوله على كمية من منتجات الألبان من المواطن/… صاحب محل ألبان بناحية دفنو – مركز أطسا – بمبلغ 25 جنيهاً دون سداد ثمنها رغم مطالبته أكثر من مرة وحصوله من المواطن/ … صاحب شركة اتصالات بمدينة أطسا على سرير وبوتاجاز للسكن الخاص به وعدم سداده ثمنهما الذي يقدر بمبلغ (200) جنيه رغم مطالبة الأخير له بالمبلغ وتردده على المقاهي بمدينة أطسا لتدخين النرجيلة والجلوس بها لفترات طويلة ومنها مقهى المواطن/… الكائن بشارع عمر بن الخطاب بمدينة أطسا.
وتأكدت تلك التحريات باعتراف الطاعن باقتراف المخالفات المنسوبة إليه بتقرير الاتهام المنوه عنها سلفا عدا المخالفة الأخيرة التي أنكر ارتكابها، متعللا بأن فترات غيابه وتأخيره عن العمل سالفة الذكر بسبب أنه كان مريضا بالفعل خلال تلك الفترات بدعوى أنه مريض بمرض مزمن وهو الحمى المالطية، وكان يعاوده هذا المرض بين فترة وأخرى، كما يعاني من مرض الربو، فضلا عن مرض نجلته بمرض ضمور خلايا العقل وكانت في حاجة إلى وجوده معها. واعترف أنه لم يحضر أمام لجنة فحص التظلمات رغم إعلانه بموعد الجلسات المحددة لنظر تظلماته من قرارات المجالس الطبية المتخصصة من عدم احتساب مدد غيابه إجازة مرضية لعلمه المسبق بأنها سوف ترفض تظلمه، وأقر بأنه لم يتذكر أنه من المقرر قيامه بدورية ليلية مساء يوم 21/8/2004، كما أقر بما ورد بكتاب البنك الأهلي المصري بقيامه بسحب مبلغ 4252.52 جنيهاً من بطاقة الائتمان الخاصة به (الفيزا كارت) وأن هذا المبلغ مضاف إليه الفوائد، وأنه كان مضطراً للحصول على هذا المبلغ لمواجهة مصروفات وعلاج ابنته المريضة، وأنه يتفاوض مع البنك لعمل جدولة لهذا الدين وتقسيطه ثم سيقوم بالسداد، كما أقر أيضا بواقعة شرائه كمية من اللحوم ومنتجات ألبان متعللا بأنه كأي موظف راتبه محدود ويقوم بشراء متطلباته من المحلات بأجل أو بنظام التقسيط ثم يقوم بسداد ثمنها فور تقاضي راتبه في آخر كل شهر، وأكد قيامه بسداد ثمن اللحم للجزار من راتبه عن شهر نوفمبر سنة 2004، وكذا بالنسبة لمشترياته من محل الألبان المشار إليه ،كما اعترف أيضا بواقعة حصوله على سرير وبوتاجاز مستعملين من المواطن/ … الذي رفض أخذ ثمنهما بعد عرضه عليه، وذلك من باب كرم الضيافة، وذلك لاستخدامهما في الاستراحة التي كان يقيم بها، واتفقا على أن يعيدهما إليه بعد نقله من مركز أطسا، وأنه قام بذلك بالفعل عقب نقله إلى مكتب أمن المديرية.
كما نفى الطاعن صحة ما ورد بالتحريات وأنكر في التحقيقات ما نسب إليه من جلوسه على المقاهي بأطسا، مبررا ما ذكره صاحب المقهى التي كان يجلس عليها بأنه كان يتردد على المقهى بملابس مدنية بأنه من قبيل الغلط في الشخصية.
ومن حيث إن المخالفات المنسوبة إلى الطاعن ثبتت في حقه أيضا من واقع شهادة كل من المواطن … صاحب محل جزارة بمدينة أطسا. حيث قرر أنه بتاريخ 12/8/2004 حضر إليه الطاعن وأفصح له عن شخصيته وطبيعة عمله واشترى منه كمية من اللحوم بلغ ثمنها مبلغ 70 جنيها، ووعده بسداد الثمن فور تقاضيه راتبه في نهاية الشهر، إلا أنه لم يقم بالسداد، وبسؤاله عنه علم بأنه في إجازة مرضية وفور عودته إلى العمل توجه إليه باستراحة ضباط المركز وطالبه بالمبلغ فأخبره بأنه لم يتقاض راتبه بعد، وأنه قام بالسداد في 3/11/2004.
وشهد المواطن … صاحب محل ألبان بناحية دفنو – دائرة مركز أطسا بأنه في أوائل شهر أكتوبر سنة 2004 حضر إليه الطاعن وأفصح له عن شخصيته وطبيعة عمله، وأنه اشترى منه بعض الطلبات من الألبان والجبن والزبادي على دفعات بلغت قيمتها 25 جنيها، وعقب ذلك بخمسة عشر يوما حضر إليه الطاعن مرة أخرى واشترى منه طلبات أخرى بمبلغ 3 جنيهات، وأنه سدد الثمن بأكمله.
وشهد المواطن … صاحب مكتب اتصالات بمدينة أطسا بأنه في أوائل شهر سبتمبر سنة 2004 علم من بعض الخفراء -لا يتذكرهم- أن الطاعن يرغب في شراء بعض الأثاثات المستعملة للاستراحة المقيم فيها، فعرض عليهم مساعدته، وعقب ذلك استدعاه الطاعن إلى مكتبه بالمركز، وطلب منه سريرا وبوتاجازا مستعملين لاستخدامهما في استراحته فقام بتدبيرهما له من منزله وأرسلهما إلى الاستراحة، وعقب ذلك حضر إليه الضابط واستعلم منه عن الثمن، فقرر له أنه نحو 200 جنيه، فعرض الضابط عليه سدادها، إلا أنه رفض بشدة تقاضيه منه، متعللاً بأن ذلك من قبيل كرم الضيافة، وأضاف أنه تم الاتفاق بينهما على إعادة هذه الأشياء إليه في حالة نقله من مركز أطسا، وبالفعل قام الطاعن بإعادتهما إليه عقب نقله إلى مديرية أمن الفيوم.
وأخيرا شهد المواطن… صاحب مقهى بمدينة أطسا بأنه خلال شهر سبتمبر سنة 2004 كان الطاعن يتردد على المقهى الخاص به مرتدياً ملابس مدنية، وكان يجلس في ركن خاص بمفرده وذلك لاحتساء الشاي والقهوة وتدخين النرجيلة، وأنه عرف أنه ضابط من خلال أحد الخفراء الذي حضر إلى المقهى للسؤال عنه، وأخبره أنه ضابط بمركز شرطة أطسا، وأضاف أنه كان يقوم بسداد ثمن تلك المشروبات، ومن ثم تكون هذه المخالفة ثابتة في حق الطاعن من واقع التحريات سالفة الذكر التي أكدتها أقوال الشاهد المذكور.
ومن حيث إن ما نسب إلى الطاعن وثبت في حقه على النحو السالف بيانه إنما يعد إخلالا منه بواجبات وظيفته وخروجاً على مقتضياتها التي توجب عليه كضابط شرطة أن ينأى بنفسه عن الدخول في علاقات مع المواطنين القاطنين في دائرة عمله، حيث من شأنها التأثير في مركزه الوظيفي، وأن تكون علاقاته بهم قائمة على الثقة والاستقامة والنزاهة والبعد عن كل مواطن الزلل، وما من شأنه أن يضعه موضع الشبهات والريبة ويمس بسمعته واعتباره وكرامته، ويؤثر بالتالي في سمعة وكرامة الهيئة التي ينتمي إليها، وأن يؤدي عمله بدقة وأمانة وبما يتفق وأحكام القوانين واللوائح والتعليمات، الأمر الذي يستوجب مساءلته تأديبيا، دون أن ينال من ذلك ما أورده الطاعن بتقريري طعنيه المشار إليهما سلفا من دفوع وأوجه دفاع؛ إذ إن ذلك لا ينفي ما نسب إلى الطاعن وتضافرت الأدلة والمستندات على تأكيده في حقه طبقا لما سلف بيانه، كما أن الثابت من مطالعة قرار مجلس التأديب الابتدائي ومن بعده قرار مجلس التأديب الاستئنافي لضباط الشرطة وما حواه ملف الدعوى التأديبية من مستندات أن المجلسين قد استخلصا ما هو منسوب للطاعن مما ورد بأقواله في التحقيق الإداري الذي أجري معه بمعرفة مفتش الداخلية، وما أدلى به الشهود من أقوال في ذات التحقيق، وبالتالي يكون القرار المطعون فيه فيما انتهى إليه بإدانة مسلك الطاعن وإثبات مسئوليته عن المخالفات المنسوبة إليه قد جاء مستخلصاً على نحو سائغ من الأوراق، وتساندت اعترافات الطاعن مع باقي الأدلة المثبتة لتلك المخالفات، ومن ثم لا يكون هناك مجال للنيل من سلامته ومشروعيته في هذا الخصوص، ولا سيما أن الطاعن لم يأت بأوجه نعي جديدة وجوهرية مؤيدة بأدلتها تنال من سلامة تلك النتيجة، بما يمكن معه إجابة الطاعن إلى طلباته حيث إنه لا وجه لنعيه بسبق مجازاته عن المخالفة الأولى والثانية والثالثة والرابعة؛ لأنه مجرد قول مرسل غير مؤيد بأي دليل، كما خلت الأوراق من أي مستند يفيد صدور قرار عن السلطة المختصة بمجازاة الطاعن عن تلك المخالفات، ولم يقدم الطاعن أي دليل يساند ادعاءه في هذا الشأن.
ومن حيث إنه لا محاجة لما دفع به الطاعن من إجراء مقاصة بين رصيده من الإجازات الاعتيادية ومدد انقطاعه عن العمل؛ لأنه وإن كان المشرع أجاز لمساعد الوزير المختص أن يقرر حساب مدة الانقطاع من الإجازة السنوية إذا كان له رصيد منها يسمح بذلك، إلا أنه قيد ذلك بعدم تجاوز مدة الغياب خمسة عشر يوما، وذلك على النحو المنصوص عليه في المادة 40 من قانون الشرطة رقم 109 لسنة 1971، وإذ ثبت أن مدة غياب الطاعن تجاوزت هذه المدة فإنه لا وجه لإجابته إلى طلبه المشار إليه.
ومن حيث إنه لا ينال من سلامة النتيجة التي انتهى إليها القرار الطعين تذرع الطاعن بمرضه؛ لأن المرض ليس عذرا مبررا للخطأ وللإعفاء من المسئولية، فقانون الشرطة (سالف الذكر) قد رسم لضابط الشرطة طريقا معينا لإثبات عذر المرض الذي يستند إليه في تبرير انقطاعه عن العمل، فيتعين التزامه بالحصول على إجازة مرضية في حالة المرض، ونظم إجراءات ذلك، ولا يجوز للضابط استبدال غير هذا الطريق به. ولما كان الثابت أن المجلس الطبي التخصصي لهيئة الشرطة لم يحتسب مدد الانقطاع الواردة بقرار الإحالة إجازة مرضية، وإذ تظلم الطاعن من قرارات ذلك المجلس إلى لجنة فحص التظلمات، ورغم إخطاره بميعاد نظر تظلماته إلا أنه لم يمثل أمامها وباعترافه، وكان يمكنه أن يقدم لها ما تحت يده من شهادات طبية تثبت مرضه إلا أنه لم يفعل؛ فمن ثم لا يجوز له أن ينعى على قرارات الجهات الطبية المختصة بالبطلان، وبالتالي فإنه لا يصح له الاستناد إلى عذر المرض –إن صح– لتبرير الخطأ أو رفع المسئولية الناتجة عن ذلك، وبناء على ذلك يكون هذا السبب في غير محله وعلى غير أساس من القانون متعينا رفضه.
ومن حيث إنه بالنسبة للدفع المبدى من الطاعن بتوافر سبب من أسباب الإباحة يبرر تغيبه عن العمل، وهو أنه رزق بطفلة مصابة بضمور في خلايا المخ وتعاني من اهتزازات في جميع أطرافها مع عدم القدرة على تناول أي طعام، وأنها تبلغ من العمر الآن خمس سنوات، وأنه وحتى وصولها إلى هذا السن يتم حقنها بالطعام من الفم بالحقن، ومن ثم فإنه ينطبق في شأنه سبب من أسباب الإباحة المنصوص عليها في المادة 60 من قانون العقوبات التي تنص على أنه “لا تسري أحكام قانون العقوبات على كل فعل ارتكب بنية سليمة عملا بحق مقرر بمقتضى الشريعة”- لا وجه لكل ذلك؛ لأنه مع التسليم بالحالة الصحية لنجلته فإنه يشترط لاستعمال الحق الشخصي كسبب من أسباب الإباحة توافر عدة شروط، في مقدمتها أن يكون هناك حق مقرر بمقتضى القانون، ولا يقف مصدر هذا الحق على ما تقرره الشريعة الإسلامية من حقوق شخصية كحق تأديب القاصر المقرر للولي، وحق تأديب الزوج لزوجته، وإنما يمتد إلى كل حق شخصي مقرر سواء في قانون العقوبات أو في أي قانون آخر.
ومن حيث إنه وإن كانت للطاعن مصلحة مشروعة فيما يفعله في علاج ابنته، إلا أن انقطاعه عن العمل بغير إذن يشكل جريمة تأديبية، ولا يوجد نص يبيح هذا الانقطاع عند توافر مثل هذه الحالة المرضية لابنة الضابط المذكور، حيث لا يوجد حق مقرر إلا بمقتضى قاعدة قانونية أيا كان مصدرها، سواء نص عليها في أي فرع من فروع القانون العام أو الخاص، ومن ثم لا يقبل من الطاعن أن يقرر لنفسه حقا غير منصوص عليه قانونا ويستعمله بناء على ذلك، في حين أن قانون الشرطة قد راعى هذا الجانب الإنساني في تنظيمه لإجازات الضابط وذلك على النحو المنصوص عليه في المادتين 37 و 38 من قانون الشرطة رقم 109 لسنة 1971، فكان في مكنته الحصول على إجازة طبقا لأحكام تلك المواد لعلاج ابنته، مما يتعين معه الالتفات عما أثاره الطاعن في هذا الشأن.
ومن حيث إنه لا يحاج بما ذهب إليه الطاعن من استحقاقه للبراءة عن المخالفات الخامسة والسادسة والسابعة والثامنة بدعوى أنه قام بسداد المبالغ المستحقة عليه وقام بإعادة السرير والبوتاجاز المستعملين لصاحبهما وذلك على النحو الثابت تفصيلا بتقرير طعنه ومذكرة دفاعه؛ لأن المشرع أحاط ضباط الشرطة بسياج من التعليمات والأوامر مرده إلى ما يسند لهيئة الشرطة من مهام جليلة، أخصها المحافظة على النظام والأمن وحماية الأرواح والأعراض والأموال ومنع الجرائم وضبطها قبل وقوعها وكفالة الطمأنينة والأمن للمواطنين في كافة مجالات حياتهم، ومن ثم استلزم فيهم المشرع توافر قدر كبير من الأمانة ونزاهة القصد والبعد عن الريب والظنون، وألا تشوب مسلكهم أية شوائب، ويتطلب الأمر من شاغل إحدى وظائف الشرطة أشد الحرص على اجتناب كل ما من شأنه أن يزري السلوك أو يمس السمعة سواء في نطاق أعمال الوظيفة أو خارج هذا النطاق.
ومن حيث إنه في تحديد المقصود بالشوائب التي تعلق بمسلك فرد الشرطة أو تزري سلوكه، فإن الأمر لا يحتاج للتدليل على قيامها إلى وجود دليل قاطع على توافرها، وإنما يكفي في هذا المقام وجود دلائل أو شبهات قوية تُلقي فعلا ظلالاً من الشك على مسلكه أو تثير غباراً حول تصرفاته وتقلل من الثقة فيه وفي الوظيفة التي يشغلها وتنال من انتمائه لهيئة الشرطة التي يتعين أن يوزن مسلك أعضائها طبقا لأرفع مستويات السلوك القويم، وإذ ثبت أن هناك تجاوزات في مسلك الطاعن حتى ولو ارتكب تلك المخالفات من غير قصد، فضلا عن قيامه بالسداد بعد مطالبة أصحاب الشأن له بالسداد، ومن ثم لا ينال من ثبوت مسئوليته عن تلك المخالفات ما تذرع به في هذا الشأن وحقت مساءلته عنها.
ومن حيث إنه بالنسبة لنعي الطاعن على القرار الطعين بالخطأ في القانون وذلك بتطبيق جزاء على الطاعن غير وارد بنص القانون فإن هذا النعي في غير محله؛ ذلك أنه من المقرر أنه ينبغي على مجلس التأديب في حالة إدانة المحال توقيع أحد الجزاءات التأديبية الصريحة المنصوص عليها قانونا، ولما كانت المادة 56 من قانون الشرطة رقم 109 لسنة 1971 المعدلة بالقانون رقم 218 لسنة 1991 تنص على أنه : “لا يمنع ترك الضابط للخدمة لأي سبب من الأسباب من الاستمرار في المحاكمة التأديبية إذا كان قد بدئ في التحقيق قبل انتهاء مدة خدمته.
ويجوز في المخالفات المالية التي يترتب عليها ضياع حق من حقوق الخزانة محاكمة الضابط تأديبيا ولو لم يكن قد بدئ في التحقيق قبل انتهاء خدمته وذلك خلال خمس السنوات اللاحقة على انتهاء الخدمة.
ويجوز أن يوقع على من ترك الخدمة غرامة لا تقل عن خمسة وعشرين جنيها ولا تجاوز خمسة أمثال الأجر الأساسي الذي كان يتقاضاه في وقت وقوع المخالفة، وتستوفى الغرامة من تعويض الدفعة الواحدة أو المبلغ المدخر وذلك في حدود الجزء الجائز الحجز عليه أو بطريق الحجز الإداري”.
وإذ ثبت أن الجزاء المقضي به هو غرامة تعادل خمسة أمثال أجره الأساسي الذي كان يتقاضاه وقت وقوع المخالفات، وكان هذا الجزاء من بين الجزاءات المنصوص عليها بالمادة 56 سالفة الذكر، فمن ثم يكون هذا الدفع قد قام على سند غير صحيح، جديراً بالرفض.
ومن حيث إنه عن الدفع المبدى من الطاعن بعدم دستورية عقوبة الغرامة المقضي بها بدعوى أن الغرامة هي عقوبة جنائية لا يجوز لغير المحاكم الجنائية أن توقعها، فإنه مردود عليه بأن عقوبة الغرامة المالية التي توقع على الضابط الذي ترك الخدمة لأي سبب من الأسباب، وثبت اقترافه مخالفة تأديبية سواء كانت إدارية أو مالية أثناء خدمته ليست عقوبة عن جريمة مؤثمة جنائيا، فليس لها طبيعة جنائية ولا يترتب عليها أي آثار جنائية، وإنما هي في حقيقتها جزاء تأديبي عن مخالفات لا تتوافر فيها الصفة الجنائية، وحيث إن لكل من المسئوليتين التأديبية والجنائية مفهومها وأركانها وأنهما لا يتماثلان، ولا يتطابقان إذ إن لكل منهما نطاقا مستقلا عن الأخرى، ومن ثم فإن الغرامة المنصوص عليها في نص المادة 56 آنفة الذكر في حقيقة تكييفها جزاء تأديبي عن مخالفة تأديبية، ومن ثم فإن الادعاء بأن تلك الغرامة التي فرضها المشرع على هذا النحو عقوبة جنائية لا يستقيم وأحكامها، ومن ثم يكون هذا الدفع في غير محله جديراً بالرفض.
ومن حيث إن قضاء هذه المحكمة جرى على أنه من المبادئ العامة للمسئولية أن تقدير خطورة ما يثبت قبل العامل من مخالفات أو جرائم تأديبية يكون في ضوء الظروف والملابسات الموضوعية التي حدثت فيها، سواء تلك المتصلة بذات المتهم ودوافعه فيما فعل أو غيره من العاملين الذين أسهموا في حدوث الخطأ التأديبي ومدى الخلل في إدارة المرفق العام الذي يكون قد ساعد على وقوع الأفعال المؤثمة أو تجسيم آثارها الضارة بالمصلحة العامة، كما أن تقدير الجزاء يتعين أن يراعى فيه التناسب بين جسامة الجرائم التأديبية في ذاتها وبين الظروف الموضوعية التي حدثت فيها بما يحقق الهدف والغاية من العقاب.
ومن حيث إن الثابت من أوراق التحقيق أنه وإن كان الطاعن قد اعترف بوقائع المخالفات المنسوبة إليه في تقرير الاتهام طبقا لما سلف بيانه إلا أنه قد ساق أعذارا لوقوع تلك المخالفات، ومنها الظروف المرضية القاسية لابنته، وأن النفقات الباهظة لعلاج نجلته وعدم كفاية مرتبه اضطره إلى شراء حاجاته الأسرية بأجل، كما أن ما اضطره إلى أخذ سرير وبوتاجاز مستعملين من مواطن لاستخدامهما في الاستراحة الحكومية التي كان يقيم بها كان مرجعه إلى عدم قيام مديرية الأمن بالفيوم بتوفير الأثاث المطلوب، وهو ما لم تنكره جهة الإدارة في ردها على الطعن الماثل.
ومن حيث إنه ولئن كانت تلك الأعذار لا تكفي لإعفاء الطاعن من المسئولية عما وقع منه، كما أن مرض ابنته لا يبرر ارتكابه المخالفات التأديبية المسندة إليه، ولا تعتبر في حكم القانون مانعا للمسئولية؛ إلا أنه إزاء ما كشفت عنه تلك الأعذار عن حسن نية الطاعن فيما وقع فيه من أخطاء قائمة على غفلته أو إهماله أو استهتاره ولم يقترفها عن عمد ولم يهدف إلى غاية غير مشروعة حسبما أظهرته ظروف وملابسات وقوعها، مما يدعو إلى التخفيف من العقوبة الموقعة عليه، ونظرا إلى صدور القرار الوزاري رقم 793 لسنة 2005 بإنهاء خدمة الطاعن من وزارة الداخلية اعتباراً من 23/6/2005 إعمالا لحكم المادة 16 من قانون الشرطة سالف الذكر، ومن ثم فإنه يتعين النزول بالجزاء الموقع عليه ليصبح بمجازاته بغرامة مقدارها مئة جنيه.
حكمت المحكمة بقبول الطعنين شكلا، وفي الموضوع بإلغاء القرار المطعون فيه، والقضاء مجدداً بمجازاة الطاعن بغرامة مقدارها مئة جنيه.
(([1] في هذا المعنى: حكم محكمة النقض في الطعن رقم 2601 لسنة 50 القضائية بجلسة 2/4/1981، مجموعة س 32 ص 315 .