جلسة 22 من يونيه سنة 2013
الطعنان رقما 9718 و 10345 لسنة 57 القضائية (عليا)
(الدائرة الأولى)
برئاسة السيد الأستاذ المستشار/ غبريال جاد عبد الملاك
رئيس مجلس الدولة ورئيس المحكمة
وعضوية السادة الأساتذة المستشارين/ أحمد وجدي عبدالفتاح علي فاضل وفوزي عبد الراضي سليمان أحمد ومنير عبد القدوس عبد الله عبد الجواد وإبراهيم سيد أحمد الطحان
نواب رئيس مجلس الدولة
جرائم تهريب أوراق النقد المصري والأجنبي- تختص محاكم مجلس الدولة بنظر المنازعة المتعلقة بقرار محافظ البنك المركزي بقبول التنازل عن المبالغ المضبوطة، مقابل عدم تحريك الدعوى الجنائية ضد المخالِف في جرائم تهريب أوراق النقد المصري والأجنبي.
جرائم تهريب أوراق النقد المصري والأجنبي- سلطة محافظ البنك المركزي المصري في تحريك الدعوى الجنائية- حظر المشرِّع رفعَ الدعوى الجنائية أو اتخاذَ أيِّ إجراءٍ من إجراءات التحقيق في هذه الجريمة، إلا بناءً على طلب من محافظ البنك المركزي أو من رئيس مجلس الوزراء- استبعد المشرِّع في التنظيم القانوني الجديد للجريمة التصالحَ مع المخالِف كسببٍ لعدم طلب تحريك الدعوى الجنائية ضده- يظلُّ محافظ البنك المركزي (أو رئيس مجلس الوزراء بحسب الأحوال) يمتلك السلطة التقديرية كاملةً في تحديد مدى ملاءمة طلب تحريك الدعوى الجنائية ضد المخالِف على وفق مقتضيات المصلحة العامة- تقدير عدم تحريك الدعوى الجنائية استنادًا إلى تنازل المخالِف عن المبلغ المضبوط طواعيةً يغدو سليمًا بمنأى عن البطلان، مادام أن التنازل قد تمَّ بإرادةٍ حُرَّة، وليس وليدَ إكراهٍ مادي أو معنوي([1]).
– المواد أرقام (116) و(126) و(131) من قانون البنك المركزي والجهاز المصرفي والنقد، الصادر بالقانون رقم (88) لسنة 2003.
– في يوم الثلاثاء 28 من ديسمبر سنة 2010 أودع الأستاذ/… المحامي المقبول أمام المحكمة الإدارية العليا (بصفته وكيلا عن…) سكرتاريةَ المحكمة عريضةَ طعنٍ، قُيِّدَ بجدولها برقم 9718 لسنة 57 القضائية، في الحكم الصادر عن محكمة القضاء الإداري (دائرة المنازعات الاقتصادية والاستثمار) بجلسة 6/11/2010 في الدعوى رقم 23684 لسنة 62ق.، المقامة من الطاعن ضد محافظ البنك المركزي والنائب العام والمحامى العام لنيابة الشئون المالية والتجارية بالقاهرة بصفاتهم، الذي قضى بقبول الدعوى شكلا، وفي الموضوع ببطلان قبول محافظ البنك المركزي تنازل المدعي عن المبالغ التى ضبطت في حيازته بجمرك ميناء نويبع المبينة بالمحضر رقم 374 لسنة 2005 حصر وارد مالية، وبرفض ما عدا ذلك من طلبات، على النحو المبين بالأسباب، وبإلزام المدعي والمدعى عليهم بصفاتهم المصروفات مناصفةً.
وطلب الطاعن -للأسباب التى استند إليها في عريضة الطعن- الحكم: (أولا) بقبول الطعن شكلا. (ثانيا) بإلغاء الحكم المطعون فيه فيما تضمنه من رفض طلب المدعي إلزام المدعى عليهم أن يردوا له المبلغ النقدي المضبوط في نويبع على ذمة المحضر رقم 374 لسنة 2005 حصر وارد مالية، مُضافًا إليه الفوائد القانونية بواقع 5% من يوم مصادرة المبلغ حتى تاريخ تسليمه.
– وفي يوم الثلاثاء 4 من يناير سنة 2011 أودع الأستاذ/… (بصفته وكيلا عن محافظ البنك المركزي بصفته) سكرتاريةَ المحكمة عريضةَ طعنٍ، قُيِّدَ بجدولها برقم 10345 لسنة 57 القضائية) في الحكم المشار إليه سالفًا.
وطلب الطاعن -للأسباب التى استند إليها في عريضة الطعن- الحكم بقبول الطعن شكلا، وفي الموضوع بإلغاء الحكم المطعون فيه فيما تضمنه من بطلان قبول محافظ البنك المركزي بصفته تنازل المدعي عن المبالغ التى ضبطت في حيازته بجمرك ميناء نويبع المبينة بالمحضر رقم 374 لسنة 2005 حصر وارد مالية، والقضاء مجددًا بعدم قبول الدعوى لانتقاء القرار الإداري، وبصحة ما انتهى إليه رأى البنك في موضوع المحضر المشار إليه سالفًا.
وقدمت هيئة مفوضي الدولة تقريرين مسببين بالرأي القانوني في الطعنين، انتهت فيهما لِما أبدته من أسباب إلى أنها ترى الحكم بقبولهما شكلا، وفي الموضوع بإلغاء الحكم المطعون فيه، والقضاء مجددًا بعدم قبول الدعوى لانتفاء القرار الإداري، مع إلزام… المصروفات عن درجتي التقاضي.
وقد عُيِّنَت لنظر الطعنين أمام دائرة فحص الطعون بهذه المحكمة جلسة 15/10/2012، وفيها قدم الحاضر عن البنك المركزي مذكرة، وقدم الحاضر عن الطاعن في الطعن الأول بجلسة 19/11/2012 مذكرتين وحافظتى مستندات، وقررت المحكمة بجلسة 18/3/2013 ضم الطعن رقم 10345 لسنة 57ق.ع إلى الطعن رقم 9718 لسنة 57ق.ع وإحالتهما إلى دائرة الموضوع ليصدر فيهما حكم واحد.
وقد عَيَّنت المحكمة لنظر الطعنين جلسة 20/4/2013، وفيها قدم الحاضر عن البنك المركزي مذكرة.
وبعد أن سمعت المحكمة ما رأت لزُومًا لسماعه من إيضاحاتِ الطرفين، قررت المحكمة إصدار الحكم بجلسة 18/5/2013، وتقرَّر مدُّ أجل النطق بالحكم لجلسة 15/6/2013، ثم إلى جلسة اليوم وفيها صدر، وأودعت مسودته المشتملة على أسبابه عند النطق به.
بعد الاطلاع على الأوراق وسماع الإيضاحات وبعد المداولة.
وحيث إن الطعنين قد أقيما خلال الميعاد القانوني، واستوفيا أوضاعهما الشكلية، فهما مقبولان شكلا.
وحيث إن عناصر هذه المنازعة -حسبما يبين من الأوراق- تتحصل في أن المدعي… أقام الدعوى رقم 23684 لسنة 62ق. بتاريخ 12/3/2008 طالبًا الحكم: (أولا) بإلغاء قرار محافظ البنك المركزي فيما تضمنه من مصادرة المبالغ المضبوطة بحيازته، (ثانيا) بإلغاء قرار المحامي العام لنيابة الشئون المالية والتجارية السلبي بالامتناع عن تسليم المدعي المبلغ المضبوط المبين بالمحضر رقم 374 لسنة 2005 حصر وارد مالية، مع ما يترتب على ذلك من آثار، أخصها تسليم المدعي المبالغ المضبوطة بحيازته على ذمة المحضر المذكور سالفًا، وإلزام جهة الإدارة المصروفات.
وقال المدعي في بيان أسانيد دعواه إن بعض ضباط ميناء نويبع قاموا بتفتيشه وتفتيش سيارته أثناء وجودة في جمرك نويبع بتاريخ 26/3/2005، حيث أخبرهم بوجود نقد مصري في سيارته يحمله على سبيل الأمانة لتوصيله لصديق له في الأردن، وقام بالإرشاد عن مكان سري بالسيارة يحتفظ فيه بالنقد خوفًا من السرقة، فقام الضباط بضبط المبلغ المبين بمحضر الضبط، وحرَّروا بالواقعة المحضر رقم 527 لسنة 2005 جنح نويبع، والذي قُيِّدَ برقم 374 لسنة 2005 حصر وارد مالية بنيابة الشئون المالية والتجارية، وأجبروه على التوقيع على إقرار بالتنازل عن المبالغ المضبوطة، ثم أرسلت نيابة الشئون المالية والتجارية أوراق التحقيق إلى محافظ البنك المركزي لاستطلاع رأيه في تحريك الدعوى الجنائية ضد المدعي من عدمه، حيث قرر محافظ البنك المركزي قبول تنازل المدعي عن المبالغ المضبوطة في مقابل عدم تحريك الدعوى العمومية ضده، وهذا القرار يعد بمثابة قرار مصادرة للمبالغ المطلوبة بالمخالفة لأحكام القانون، لافتقاره للشروط اللازمة لصحته من حيث المحل والسبب، فضلا عن صدوره مشوبًا بعيب إساءة استعمال السلطة، وعيب مخالفة الدستور والقانون، اللذين يحظران مصادرة الأموال بغير حكم قضائي، لاسيما أن قانون البنك المركزي رقم 88 لسنة 2003 قد ألغى جميع حالات التصالح بين من يملك تحريك الدعوى الجنائية والمخالِف مقابل تنازل الأخير عن المبلغ محل الجريمة، وقصر دور محافظ البنك المركزي في قضايا تهريب النقد على إبداء الرأي في تحريك الدعوى الجنائية فقط، دون الحق في عرض التصالح أو قبول التنازل عن المبالغ محل الجريمة نظير عدم تحريك الدعوى الجنائية.
وأجاب البنك المدعى عليه على الدعوى بالدفع بعدم اختصاص المحكمة ولائيا بنظر الدعوى، وبعدم قبول الدعوى لرفعها بعد الميعاد، وبغير الطريق الذي رسمه القانون، وعلى غير ذي صفة، ولانتفاء القرار الإداري، وطلب احتياطيا الحكم برفض الدعوى.
……………………………………………………………..
وفي 6 من نوفمبر سنة 2010 حكمت محكمة القضاء الإداري بقبول الدعوى شكلا، وفي الموضوع ببطلان قبول محافظ البنك المركزي تنازل المدعي عن المبالغ التى ضُبِطَت في حيازته بجمرك ميناء نويبع المبينة بالمحضر رقم 374 لسنة 2005 حصر وارد مالية، ورفض ما عدا ذلك من طلبات، على النحو المبين بالأسباب، وألزمت المدعي والمدعى عليهم بصفاتهم المصروفات مناصفةً.
وشيَّدت المحكمة قضاءها على أن المنازعة المعروضة تدخل في عموم المنازعات الإدارية، ومن ثم تندرج في اختصاص المحكمة، وأن محافظ البنك المركزي ذو صفةٍ في الدعوى، حال كونه قد قبل تنازل المدعي عن المبالغ التى ضبطت في حيازته، وطلب من النيابة العامة استنادًا إلى هذا التنازل عدم تحريك الدعوى العمومية قبل المدعي، وأن المدعي سبق أن عرض النـزاع على إحدى لجان التوفيق في المنازعات، وأن الدعوى من دعاوى الاستحقاق التى لا تتقيد في رفعها بمواعيد دعوى الإلغاء، ولذلك كله فهي مقبولة شكلا.
وذكر الحكم -فيما يتعلق بموضوع الدعوى- أنه بإلغاء القانون رقم 38 لسنة 1994 بتنظيم التعامل بالنقد الأجنبي، أُلْغِي التنظيمُ الوارد بنص المادة (9) من هذا القانون للتصالح في جرائم النقد، والذي كان يمنح الجهة الإدارية المختصة بطلب إقامة الدعوى الجنائية سلطة التصالح مع المخالِف مقابل نزوله عن المبالغ موضوع الجريمة إلى خزينة الدولة، وأن المشرع قد نهج في قانون البنك المركزي والجهاز المصرفي والنقد رقم 88 لسنة 2003 نهجًا مختلفًا فيما يتعلق بسلطة الجهة الإدارية المختصة، فقصرها بموجب نص المادة (131) من هذا القانون على مجرد طلب إقامة الدعوى العمومية، دون أن تمتد إلى التصالح مع مرتكِب الجريمة، وذلك على خلاف جميع القوانين السابقة عليه، والتي تناولت بالتنظيم التعامل بالنقد الأجنبي، وأن هذه المغايرة في الأحكام بين ما نصت عليه المادة (9) من القانون رقم 38 لسنة 1994 والمادة (131) من قانون البنك المركزي رقم 88 لسنة 2003 المشار إليهما، دليلٌ على انصراف إرادة المشرع إلى سلب الجهة الإدارية المختصة سلطة التصالح في الجرائم التى نص عليها قانون البنك المركزي رقم 88 لسنة 2003 المشار إليه، وقصر هذه السلطة على طلب إقامة الدعوى الجنائية فقط، ومن ثم كان يتعيَّن على محافظ البنك المركزي بمجرد بدء العمل بأحكام هذا القانون الامتناعُ عن إجراء أيِّ تصالحٍ عن الجرائم التى نظمتها أحكامه، وإذ قبل في النـزاع الماثل تنازل المدعي عن المبالغ التى ضبطت في حيازته مقابل عدم تحريك الدعوى الجنائية ضده، فإنه يكون قد جاوز حدودَ السلطات المقرَّرة له قانونًا، ويقع قبولُ هذا التنازل باطلا بطلانًا مطلقًا لصدوره بالمخالفة لأحكام القانون.
ويستطرد الحكم أنه نظرًا لاستحالة إعادة الحال إلى ما كانت عليه قبل التصالح بشأن هذه الجريمة، إذ فقد محافظ البنك المركزي سلطته في طلب تحريك الدعوى الجنائية ضد المدعي، ولم يَعُد في الإمكان إقامةُ هذه الدعوى ضده بعد أن انقضت بالتقادم، على وفق نص المادة (15) من الإجراءات الجنائية، بمضي أكثر من ثلاث سنوات على وقوعها بتاريخ 26/3/2005، ومن ثم يستحِق محافظ البنك المركزي تعويضًا مقابل الوفاء بالتزاماته تجاه المدعي (بعدم تحريك الدعوى الجنائية ضده) على أن يكون هذا التعويض مُعادِلا للمبالغ التى جرى ضبطها مع المدعي، على وفق ما تقضى به الفقرة الأولى من المادة (142) من القانون المدني، باعتبار أن التزام محافظ البنك المركزي بعدم تحريك الدعوى الجنائية ضد المدعي يُعادِلُه التزام المدعي بالتنازل عن المبالغ التى ضبطت في حيازته، ومن ثم يجبُ أن يكون التعويض مُعادِلا للمبالغ المضبوطة، وبذلك يصبح من حق الجهة الإدارية الاحتفاظ بالمبالغ التى ضُبِطَت في حيازة المدعي، ويكون طلبُ المدعي استرداد هذه المبالغ مع فوائدها القانونية خليقًا بالرفض.
……………………………………………………………..
– وحيث إن مبنى الطعن الأول أن الحكم المطعون فيه قد صدر باطلا، مشوبًا بالفساد في الاستدلال، والخطأ في تطبيق وفهم وتفسير القانون؛ وأن أساس الطعن يقوم على ركيزة من جملة أسباب حاصلها: 1- أن القول بحق البنك المركزي في مصادرة المبلغ المضبوط تعويضًا عن التزامه بعدم تحريك الدعوى الجنائية ضد الطاعن يعني إدانة الأخير، ومعاقبته بمصادرة أمواله، دون محاكمة جنائية عادلة، بالمخالفة لقاعدة الأصل في الإنسان البراءة. 2- أن تنازل الطاعن عن المبلغ المضبوط كان وليدَ إكراهٍ، خلافًا لِما جاء في أسباب الحكم من أن التنازل كان باختيار الطاعن وبدون إكراهٍ من أحدٍ. 3- أن الحكم المطعون فيه قد قضى ببطلان تصرف محافظ البنك المركزي بشأن قبول تنازل الطاعن عن أمواله، ومن ثم فالوجه الآخر لهذا البطلان هو استرداد الطاعن لتلك الأموال، وهو ما لم يقضِ به الحكم في تناقضٍ واضح بين أسبابه ومنطوقه. 4- أن المصادرة العامة للأموال محظورةٌ بنص المادة (36) من الدستور إلا بحكم قضائي، والملكية الخاصة مصونةٌ على وفق نص المادة (34) من الدستور، وأن إقرار الحكم المطعون فيه بحق محـافظ البنك المركزي في الاحتفاظ بأموال الطاعن، إعطاءٌ ممن لا يَملكُ لمن لا يَستحِقُ، فضلا عن أن ما بُنِيَ على باطلٍ فهو باطل، وأن الحكم المطعون فيه لا يملك سلطةً من تشريعٍ في التقرير بحق محافظ البنك المركزي في الاحتفاظ بأموال الطاعن ومصادرتها دون حكم قضائي.
– وحيث إن مبنى الطعن الثاني أن الحكم المطعون فيه قد أخطأ في تطبيق القانون وتأويله وتفسيره؛ وأن أساس الطعن يقوم على ركيزة من جملة أسباب حاصلها: 1- أن تنازل المطعون ضده عن الأموال المضبوطة جاء بناء على رغبته في تجنب المساءلة القانونية، وأن ما ارتآه البنك المركزي من قبول التنازل وعدم تحريك الدعوى الجنائية لم يخالف روح التشريع، والغاية التى يبتغيها المشرِّع بنصوص القانون، وهى تحقيق المصلحة العامة بعدم خروج النقد المصري بطريقة غير مشروعة، والمصلحة الخاصة بالمطعون ضده بتجنيبه المساءلة الجنائية. 2- أن قبول البنك المركزي للتنازل ينفي عنه وصف القرار الإداري، وبالتالي لا يتولد عنه منازعة إدارية، والتكييف الصحيح لهذا القبول أنه عقد رضائي بين طرفيه يُسمى “عقد صلح”، وأن الصلح الجنائي هو بمثابة نزول من الهيئة الاجتماعية عن حقها في الدعوى مقابل الجعل الذي قام عليه هذا الصلح، الأمر الذي يخرج المنازعة من عداد المنازعات الإدارية، فلا يختص بها قضاء مجلس الدولة. 3- أن سند البنك في قبول التنازل ليس ما ورد بالمادة (116) من قانون البنك المركزي والجهاز المصرفي والنقد رقم 88 لسنة 2003 وإنما هو إرادة المدعي الحرة الواعية بمحضر جمع الاستدلالات أمام النيابة، ومن ثم فإن النعي على مسلك محافظ البنك المركزي بفقدانه السند القانوني هو نعى غير سديد. 4- اختصاص النيابة العامة أو قاضى التحقيق أو محكمة الجنح المستأنفة دون غيرهم برد الأشياء التى ضُبِطَت أثناء التحقيق، يستوي في ذلك أن تكون الأشياء المضبوطة (التى يجوز أن تكون محلا للرد) من الأشياء التى وقعت عليها الجريمة أو المتحصَّلة منها، وهذا الرد في كل الأحوال عملٌ قضائي يخرج بطبيعته عن نطاق الاختصاص الولائي لقضاء مجلس الدولة؛ بحسبان أن المبالغ المطلوب استردادها تمثل مضبوطات متحصَّلة من جريمة، ومقيَّدة على ذمة القضية تحت تصرف النيابة العامة.
……………………………………………………………..
وحيث إنه عن الدفوع المبداة بعدم الاختصاص الولائي لمحكمة القضاء الإداري بنظر الدعوى، وبعدم قبولها سواء لرفعها بعد الميعاد، أو بغير الطريق الذي رسمه القانون، أو على غير ذي صفة، أو لانتفاء المنازعة الإدارية، فإن المحكمة تتبنى ذات الأسباب التى أوردها الحكم المطعون فيه في خصوص تلك الدفوع، وتُحِيلُ إليها منعًا للتكرار، وتقضي استنادًا إليها برفض هذه الدفوع جميعها، على أن يُكتفى بذكرِ ذلك في الأسباب دون التطرق إلى هذا القضاء في المنطوق.
وحيث إن المادة (116) من قانون البنك المركزي والجهاز المصرفي والنقد الصادر بالقانون رقم 88 لسنة 2003([2]) تنص على أن: “إدخالُ النقد الأجنبي إلى البلاد أو إخراجه منها مكفولٌ لجميع المسافرين، على أن يتم الإفصاحُ عن مقداره عند الدخول أو الخروج إذا جاوز عشرة آلاف دولار أمريكي أو ما يُعادِلُها بالنقد الأجنبي. ويجوزُ للقادمين إلى البلاد أو المسافرين منها حملُ أوراق النقد المصري في حدود خمسة آلاف جنيه مصري. ويُحظَر إدخالُ النقد المصري أو إخراجه من خلال الرسائل والطرود البريدية…”.
وتنص المادة (126)([3]) على أن: “يُعاقبُ بالحبس مدة لا تجاوز ثلاثة أشهر وبغرامة لا تقل عن خمسة آلاف جنيه ولا تجاوز عشرين ألف جنيه أو بإحدى هاتين العقوبتين كلُّ من خالِف أيا من أحكام المادة (116) من هذا القانون… وفي جميع الأحوال تُضبَط المبالغُ والأشياء محل الدعوى ويُحكَم بمصادرتها، فإن لم تُضبَط حُكِمَ بغرامةٍ إضافية تُعادِلُ قيمتَها”.
وتنص المادة (131) من القانون ذاته على أن: “لا يجوزُ رفعُ الدعوى الجنائية أو اتخاذُ أيِّ إجراءٍ من إجراءات التحقيق في الجرائم المنصوص عليها في هذا القانون والقرارات الصادرة تنفيذًا له، وفي المادتين 116 مكررًا و 116 مكررًا (أ) من قانون العقوبات في نطاقِ تطبيق أحكام هذا القانون، إلا بناءً على طلبٍ من محافظ البنك المركزي أو طلبٍ من رئيس مجلس الوزراء”.
وحيث إن مفاد هذه النصوص أن المشرع جرَّم في المادة (116) من قانون البنك المركزي والجهاز المصرفي والنقد رقم 88 لسنة 2003 حملَ القادمين إلى البلاد أو المسافرين منها أوراق النقد المصري بأكثر من خمسة آلاف جنيه، وقنَّن لهذه الجريمة عقوبةَ الحبس والغرامة أو إحديهما، وحظر المشرع رفعَ الدعوى الجنائية أو اتخاذ أي إجراء من إجراءات التحقيق في هذه الجريمة، إلا بناءً على طلب من محافظ البنك المركزي، أو طلب من رئيس مجلس الوزراء.
ومع التسليم بأن التنظيم القانوني للجرائم المالية في قانون البنك المركزي رقم 88 لسنة 2003، ومن بينها الجريمة المشار إليها سالفًا، جاء مغايرًا للتنظيم الوارد في المادة (9) من القانون رقم 38 لسنة 1994 بتنظيم التعامل بالنقد الأجنبي (الملغى)، والتي كانت تمنح الجهة الإدارية المختصة بطلب إقامة الدعوى الجنائية في جرائم النقد سلطة التصالح مع المخالف، مقابل تنازله عن المبالغ موضوع الجريمة إلى خزينة الدولة، وأن التنظيم الجديد للجريمة على وفق نص المادة (131) من قانون البنك المركزي رقم 88 لسنة 2003 المشار إليه سالفًا استبعد التصالح مع المخالف، كسببٍ لعدم طلب تحريك الدعوى الجنائية ضده، إلا أنه برغم ذلك يظلُّ محافظ البنك المركزي أو رئيس مجلس الوزراء -بحسب الأحوال- يمتلك السلطة التقديرية كاملةً في تحديد مدى ملاءمة طلب تحريك الدعوى الجنائية ضد المخالف من عدمه، على وفق مقتضيات المصلحة العامة، ومن المسلمات أن هذه السلطة التقديرية تخضع لرقابة القضاء الإداري، فإذا قدَّر محافظ البنك المركزي أو رئيس مجلس الوزراء -بحسب الأحوال- عدم طلب تحريك الدعوى الجنائية لأسبابٍ غير سائغة، أو لأغراض أخرى خلاف المصلحة العامة، كان تصرفُه مخالفًا للقانون، حقيقًا بالبطلان.
وحيث إنه بإنزال ما تقدم على واقعات النـزاع الماثل، فإن الثابت من الأوراق أن/… (الطاعن في الطعن الأول) ضُبِطَ بتاريخ 26/3/2005 بجمرك نويبع وبحوزته مبلغ مليون وخمس مئة وسبعة آلاف جنيه مصري، كان يُخفِيها في مكانٍ سري داخل كابينة سيارة نقلٍ محملة بالبضائع (قيادته) متجهة إلى الأردن عن طريق البحر، وتحرَّر بالواقعة محضر الضبط رقم 8 لسنة 2005 جمرك نويبع، حيث حرَّر المذكور إقرارًا بتنازله عن المبلغ المضبوط في مقابل عدم تحريك الدعوى الجنائية ضده، وقُيِّدَت القضية برقم 374 لسنة 2005 حصر وارد مالية، وعُرِضَت من قبل نيابة الشئون المالية والتجارية بالقاهرة على محافظ البنك المركزي، الذي أجاب بتاريخ 11/5/2005 بأنه يرى عدم طلب رفع الدعوى الجنائية في هذه القضية مع قبول التنازل عن المبلغ المضبوط (المتحفَظ عليه)، وبناءً عليه حُفِظَت القضيةُ إداريا.
وحيث إن تقدير محافظ البنك المركزي عدم طلب تحريك الدعوى الجنائية في الحالة المعروضة قد استند إلى تنازل المخالف المذكور عن المبلغ المضبوط طواعيةً، فإن تصرفَ محافظ البنك المركزي والحالة هذه يكون قد رجح مصلحةَ الخزانة العامة، ومن ثم يغدو هذا الإجراء سليمًا قانونًا بمنأى عن البطلان، مادام أن تنازلَ المخالف قد تمَّ بإرادته الحرة، ولم يكن وليدَ إكراهٍ مادي أو معنوي، بحسب ظروف وملابسات الواقعة على وفق ما هو ثابت بالأوراق، لاسيما أنه لا يسوغ قانونًا للمخالِف المذكور (الطاعن في الطعن الأول) بعد أن أفلت من المساءلة الجنائية كأثرٍ مباشر لاختياره التنازل عن المبلغ المضبوط، أن يحتال على الإدارة بنقض تنازله واسترداد المال المضبوط، بعد أن استغلق أمام الجهة الإدارية طريق طلب تحريك الدعوى الجنائية ضده.
وحيث إن الحكم المطعون فيه قد ذهب مذهبًا مغايرًا، وتبنى غير هذا النظر، فيكون قد أخطأ في تأويل القانون، ومن ثم يتعيَّن إلغاؤه، والقضاء مجددًا برفض الدعوى.
وحيث إن الطاعن في الطعن الأول قد خسر الدعوى والطعنين في آن واحد معًا، فيلزم المصروفات جميعها عن درجتي التقاضي عملا بنص المادتين (184) و(240) من قانون المرافعات المدنية والتجارية.
حكمت المحكمة بقبول الطعنين شكلا، وفي موضوعهما بإلغاء الحكم المطعون فيه، وبرفض الدعوى، وألزمت/… المصروفات عن درجتي التقاضي.
[1])) تناول القانون رقم 38 لسنة 1994 بتنظيم التعامل بالنقد الأجنبي (الملغى بموجب المادة الأولى من القانون رقم 88 لسنة 2003 بإصدار قانون البنك المركزي والجهاز المصرفي والنقد) فكرةَ التصالح في جرائم تهريب أوراق النقد المصري والأجنبي مُقابِلَ عدم تحريك الدعوى الجنائية ضد المخالِف.
[2])) قبل تعديلها بموجب القانونين رقمي 160 لسنة 2012 و8 لسنة 2013.
[3])) تجدر الإشارة إلى أنه تمَّ تعديلُ هذه المادة بموجب القانون رقم 66 لسنة 2016.