جلسة 15 من فبراير سنة 2003م
برئاسة السيد الأستاذ المستشار/ د. عبدالرحمن عثمان أحمد عزوز.
رئيس مجلس الدولة ورئيس المحكمة
وعضوية السادة الأساتذة المستشارين/ على فكرى حسن صالح، ويحيى خضرى نوبى محمد، ود. محمد ماجد محمود أحمد، وأحمد عبدالحميد حسن عبود.
نواب رئيس مجلس الدولة
وبحضور السيد الأستاذ المستشار/ حتة محمود حتة
مفوض الدولة
وحضور السيد/ كمال نجيب مرسيس
سكرتير المحكمة
الطعن رقم 3596 لسنة 35 قضائية عليا:
عقد المساهمة فى مشروع ذى نفع عام هو عقد إدارى يتعهد بموجبه شخص برضائه واختياره بالمساهمة نقدًا أو عينًا فى مشروعات الأشغال العامة أو المرافق العامة وقد يكون المتعهد ذا مصلحة فى تعهده أو غير ذى مصلحة فيه، وقد يترتب بعوض أو يتمحض تبرعاً وقد يكون مبتدأ من تلقاء المتعهد أو بطلب من جانب الإدارة، وقد يكون التعهد منجزًا أو قد يقع مشروطاً، ومهما اختلفت صور هذا العقد وتباينت أوصافه فهو يقوم على المساهمة الاختيارية فى مشروع ذى نفع عام فهو عقد إدارى وثيق الصلة بعقود الأشغال العامة يمتاز بخصائص العقود الإدارية التى تنأى عن القواعد المألوفة فى مجالات القانون الخاص، ومن ثم فلا يتقيد فى شأنه إذا تم على وجه التبرع بقواعد الهبة المقررة فى القانون المدنى وإنما تنطبع قواعده باحتياجات المشروع العام الذى يعهد إلى خدمته وأسباب المصلحة العامة التى تستهدف المساهمة تحقيقها، وعليه فلئن كانت القاعدة فى ظل أحكام القانون المدنى وجوب أن تكون هبة العقار بورقة رسمية وإلا وقعت باطلة، ما لم تتم تحت ستار عقد آخر، لأن الورقة الرسمية بما تتضمّنه من الإجراءات وما تستتبعه من الجهر والعلانية توسد ضمانات لأطرافها فتتفتحَ للواهبِ فرصةُ تأمل وتدبر فلا يتجرد من ماله وراء انفعال عارض، كما يظفر الموهوب له بسند رسمى يتسلح به دفاعاً عن حقه قِبَلَ ما تستهدف له الهبة من المطاعن فإن مثل تلك الاعتبارات لا تستقيم دواعيها فى مجال العقد الإدارى بما يؤمنه لأطرافه من أسباب التدبر والروية وما يقتضيه من إجراءات أمام الجهة الإدارية ذات الشأن هى مِنْ جانبها تقابل الرسمية التى تتطلبها الهبة المدنية، كما أن اعتبارات المصلحة والوفاء باحتياجات المرفق الذى تمهد المساهمة إلى خدمته تعلو ما عداها من الاعتبارات بما لا سبيل معه إلى التمسك بطلبات تفتقد دواعيها ـ تطبيق.
المادتان (127) و(128) من القانون المدنى .
الإكراه هو العمل الذى يبعث فى نفس الشخص رهبة تحمله على التعاقد، فهو يصيب الإرادة فى أحد عناصرها وهو عنصر الحرية والاختيار إذ المكره لا يريد أن يتعاقد ولكن الرهبة التى ولدها الإكراه تدفعه إلى التعاقد، فالإرادة تصدر حينئذ عن دوافع أوحت بها هذه الرهبة ولهذا كانت إرادة معيبة، فالوسيلة المستعملة للضغط على المتعاقد ليست هى التى تفسد الإرادة وإنما ما تبعثه هذه الوسيلة من رهبة فى النفس تحمل على التعاقد، فالإكراه الذى يعيب الإرادة هو الإكراه الذى تكون الإرادة فيه موجودة ولكنها ليست حرة، إذ يكون المتعاقد بين أن يتحمل الأذى أو يتعاقد، فيختار التعاقد لدرء الأذى عن نفسه أو عن غيره ولولا خوفه من هذا الأذى ما تعاقد ـ شروط الإكراه ثلاثة أولها: أن تستعمل وسيلة للإكراه ـ ثانيها: أن تبعث هذه الوسيلة رهبة فى نفس المتعاقد تحمله على التعاقد ـ ثالثها: أن يكون الإكراه صادراً من المتعاقد الآخر أو أن يكون على علم بهذا الإكراه ـ تطبيق.
بتاريخ 9/7/1989 أودع وكيل الطاعنين قلم كتاب المحكمة الإدارية العليا، تقرير طعن قيد بجدولها تحت رقم 3596 لسنة 35ق.عليا ـ وذلك فى الحكم الصادر من محكمة القضاء الإدارى بالمنصورة (الدائرة الأولى) بجلسة 7/6/1989 فى الدعوى رقم 714 لسنة 4ق المقامة من المطعون ضدهم الأول والثانى والثالث بصفتهم ضد الطاعنين والمطعون ضده الرابع بصفته والقاضى بصحة ونفاذ العقد المؤرخ 19/12/1966 الصادر من مورث المدعى عليهم التسعة فيما تضمّنه من مساهمته بالعقار الكائن بناحية أخطاب مركز أجا دقهلية فى مشروع ذى نفع عام وألزمت المدعى عليهم التسعة الأول فى مواجهة المدعى عليه الأخير المصروفات القضائية.
وطلب الطاعنون فى ختام تقرير الطعن ـ للأسباب الواردة به ـ الحكم بقبول الطعن شكلاَ، وفى الموضوع بإلغاء الحكم المطعون فيه والقضاء مجدداً برفض الدعوى مع إلزام المطعون ضدهم من الأول حتى الثالث بصفتهم المصروفات ومقابل أتعاب المحاماة.
وجرى إعلان تقرير الطعن إلى المطعون ضدهم بصفتهم على النحو المبين بالأوراق، وقدمت هيئة مفوضى الدولة تقريراً مسبباً بالرأى القانونى ارتأت فيه الحكم بقبول الطعن شكلاً، وفى الموضوع بإلغاء الحكم المطعون، وبرفض الدعوى وإلزام الجهة الإدارية المصروفات.
وقد عُين لنظر الطعن أمام دائرة فحص الطعون جلسة 21/5/2001 وبجلسة 7/1/2002 قررت الدائرة إحالة الطعن إلى المحكمة الإدارية العليا ـ الدائرة الأولى ـ لنظرها بجلسة 26/1/2002 وقد نظرت المحكمة الطعن بهذه الجلسة والجلسات التالية وبجلسة 14/12/2002 قررت المحكمة إصدار حكمها بجلسة 1/2/2003 ومذكرات فى شهر وفى فترة حجز الطعن للحكم أودعت الجهة الإدارية مذكرة بدفاعها طلبت فى ختامها رفض الطعن وتأييد الحكم المطعون فيه مع إلزام الطاعنين المصروفات كما قدمت حافظة مستندات طويت على صورة من الحكم الصادر من محكمة النقض فى الطعن رقم 1276 لسنة 47 ق بجلسة 25/12/1984 والمقام من وزير التربية والتعليم وآخرين ضد ورثة المرحوم / أحمد السعدى الأتربى وبهذه الجلسة قررت المحكمة مد أجل النطق بالحكم لجلسة اليوم وفيها صدر وأودعت مسودته المشتملة على أسبابه لدى النطق به.
بعد الاطلاع على الأوراق، وسماع الإيضاحات، وبعد المداولة.
ومن حيث إن الطعن قد استوفى أوضاعة الشكلية فهو مقبول شكلاً.
ومن حيث إن عناصر المنازعة تخلص ـ حسبما يبين من الأوراق ـ فى أن المطعون ضدهم من الأول حتى الثالث بصفتهم كانوا قد أقاموا الدعوى رقم 714 لسنة 4ق بإيداع صحيفتها قلم كتاب محكمة القضاء الإدارى بالمنصورة بتاريخ 4/4/1982 طالبين فى ختامها الحكم بصحة ونفاذ العقد الصادر من مورث المدعى عليهم المرحوم/ أحمد السعدى الأتربى بتاريخ 9/12/1966 بالمساهمة بالعقار موضوع هذا العقد لتقيم فيه مديرية التربية والتعليم بمحافظة الدقهلية مدرسة لتعليم أبناء قرية أخطاب مركز أجا وكف منازعتهم للمدعين بصفتهم فيما يتعلق بهذا العقار وذلك فى مواجهة المدعى عليه الأخير بصفته، مع إلزام المدعى عليهم عدا الأخير بمصروفات الدعوى.
وذكر المدعون بصفتهم بياناً لدعواهم أن مورث المدعى عليهم المرحوم/ أحمد السعدى الأتربى أراد أن يقدم خيراً لوطنه عن طريق مساهمته عيناً فى مرفق عام هو مرفق التعليم بتقديم منزله الكائن بناحية أخطاب مركز أجا والمكون من أربعة أدوار إلى مديرية التربية والتعليم بالدقهلية لتنشئ عليه مدرسة حيث صدر منه إقراراً مؤرخاً 9/12/1966 بتوقيع شاهدين تضمن إقراره بكامل إرادته بتبرعه تبرعًا نهائياً لا رجوع فيه ونافذ المفعول ومنتجاً لكافة آثاره بهذا المبنى إلى مديرية التربية والتعليم بالدقهلية لتشغيله مدرسة تقوم بالأغراض التعليمية، وأن هذا عقد غير رسمى يسمى فى الفقه الإدارى بعقد تقديم المعاونة، وبموجب هذا العقد التزمت مديرية التربية والتعليم بإنشاء مدرسة فى المبنى بتقديم ما يلزم من أدوات ومعامل وتعيين مدرسين وموظفين وعمال واقتصرت مساهمة مورث المدعى عليهم فى هذا المشروع ذى النفع العام على تقديم المبنى إلا أنه وبعد مرور ثلاث سنوات أراد مورث المدعى عليهم التنكر لمساهمته فى هذا المشروع ذى النفع العام استناداً إلى أن مساهمته فى هذا المشروع غير صحيحة وأن وضع يد الوزارة غير قانونى، وقد سلك مورث المدعى عليهم وورثته بعد وفاته سبيل التقاضى وأقاموا الدعوى رقم 1795 لسنة 1969مدنى كلى المنصورة للمطالبة بحقهم عن الريع فى المدة من 17/12/1966 حتى نهاية أكتوبر 1969 بسبب شغل المنزل، وقضى فيها ابتدائياً بجلسة 18/3/1971برفض الدعوى فاستأنفوا هذا الحكم بالاستئناف رقم 217 لسنة 23ق مدنى المنصورة قضى فيه بجلسة 11/6/1977 بإلغاء الحكم المستأنف وإلزام المطعون ضدهم بصفتهم بأن يدفعوا إلى الطاعنين بصفتهم ورثة المرحوم/ أحمد السعدى الأتربى مبلغ 3400 جنيهاً ريع المدة من 17/12/1966 حتى نهاية أكتوبر 1969، فطعنت الحكومة فى هذا الحكم بالنقض ولم يفصل فيه بعد (حتى إقامة الدعوى، إلا أن الحكومة أودعت فى فترة حجز هذا الطعن للحكم حافظة طويت على صورة من حكم محكمة النقض المشار إليه رقم 1276/47ق والصادر بجلسة 2/12/1984 وقد قضى بنقض حكم الاستئناف، وفى موضوع الاستئناف رقم 217 لسنة 33ق برفضه وتأييد الحكم المستأنف).
وأضاف المدعون (المطعون ضدهم) بصفاتهم بأن الأحكام الصادرة من القضاء المدنى فى النزاع الماثل لا تلزم جهة القضاء الإدارى المختصة قانوناً، وأن التكييف السليم للعقد محل الدعوى أنه عقد غير رسمى فى القانون يسمى بعقد تقديم المعاونة ولا يعتبر هبة ولا تجب له الرسمية، وأن لجهة الإدارة أن تقبله ولها أن ترفضه فإن قبلته صار ملزماً للواهب لا يمكن التحلل منه أما إذا رفضته تحلل الواهب من عرضه وسقط هذا العرض، وأن جهة الإدارة نفذت التزامها بإنشاء المدرسة ولا يمتلك الواهب أو ورثته من بعده التحلل من الالتزام المقابل، وأن تكاليف الإنشاء والإدارة التى تحملتها جهة الإدارة تفوق بكثير قيمة المبنى محل العقد الأمر الذى يكون معه هذا العقد هو عقد معاوضة وليس عقد هبة ولا تجب له الرسمية.. وأنه إزاء تنكر المدعى عليهم لالتزاماتهم فإن الجهة الإدارية أقامت الدعوى الماثلة بالطلبات سالفة الذكر.
وبجلسة 7/6/1989 أصدرت المحكمة حكمها المطعون فيه بصحة ونفاذ العقد المؤرخ 9/12/1966 الصادر من مورث المدعى عليهم، وقد شيدت قضاءها على أن الثابت من الأوراق أنه بتاريخ 9/12/1966 أقر مورث المدعى عليهم التسعة الأول بتبرعه بالمبنى ملكه الكائن بناحية أخطاب مركز أجا محافظة الدقهلية دون أى مقابل إلى مديرية التربية والتعليم بالدقهلية لشغله مدرسة تقوم بالأغراض التعليمية، وأضاف أنه حرر هذا الإقرار بإرادته الكاملة وهو فى كامل صحته وأهليته للتبرع، وأن هذا التبرع الصادر منه تبرعاً نهائيًا لا رجوع فيه لأى سبب من الأسباب ومنتجاً لكافة آثاره القانونية، وأن هذا الإقرار المذكور يعتبر فى حقيقته عقداً إدارياً التزم بمقتضاه مورث المدعى عليهم التسعة الأول بتبرعه عيناً فى نفقات مرفق التعليم بمحافظة الدقهلية بدون عوض وقد قبلته الجهة الإدارية وقامت بإعداده كمدرسة، ومن ثم فإن العقد المذكور تكون قد توافرت بشأنه أركان انعقاده وشروط صحته ويتعين القضاء بصحته ونفاذه، وأنه لا ينال مما تقدم ما أثاره المدعى عليهم من أن العقد هو فى حقيقته عقد هبة لم تتخذ فى شأنه الإجراءات المقررة فى القانون المدنى وأن هناك حكم صدر من القضاء المدنى بأحقيتهم فى ريع العقار لأن ذلك مردود عليه بأن العقد المذكور باعتباره من العقود الإدارية ينأى عن القواعد المألوفة فى مجالات القانون الخاص ولا يتقيد بقواعد الهبة المقررة فى القانون المدنى التى تقضى بوجوب أن تكون هبة العقار بورقة رسمية وذلك لاعتبارات المصلحة العامة، وانتهت المحكمة إلى حكمها المشار إليه.
ومن حيث إن مبنى الطعن هو مخالفة الحكم المطعون فيه للقانون على سند أن مورثهم كان تحت ضغط إكراه وتهديد يهدد ماله وشرفه وعرضه وحياته وأن العقد وقع فى مبنى القيادة العامة للقوات المسلحة وأن الشهود من العاملين بالشرطة العسكرية وأن الخبير المنتدب فى الدعوى المدنية أثبت أن الشرطة العسكرية كانت تجرى مع مورثهم تحقيقات فى عام 1966 بواسطة ما يسمى بلجنة تصفية الإقطاع، وأن الجهة الإدارية لم تقدم أصل الورقة المؤرخة 9/12/1966 بل قدمت صورة منه وهى لا تصلح فى الإثبات، وأن الحكم المطعون فيه لم يتحقق من صدور العقد برضاء مورث الطاعنين واختياره، كما أن المادة 486/2 مدنى لم تفرق بين الهبة لشخص عادى أو الهبة لشخص عام فكل تصرف دون عوض فهو هبة بصرف النظر عن شخص الموهوب له أو الغرض من الهبة، كما أنه قد ثبت أمام محكمة أول درجة وفاة المرحومة/ سعاد رياض الجبالى المدعى عليها الثانية. وقررت المحكمة التأجيل لإعلان ورثتها، ولم ينفذ هذا القرار حتى صدور الحكم الطعين مما يخالف نص المادة 132 مرافعات.
وخلص الطاعنون إلى طلباتهم سالفة الذكر.
ومن حيث إن الجهة الإدارية قد أقامت دعواها المحكوم فيها موضوع الطعن بغية الحكم بصحة ونفاذ الإقرار الموقع من مورث الطاعنين المرحوم/ أحمد السعدى الأتربى المؤرخ 9/12/1966.
ومن حيث إنه عن وجه الطعن الخاص بالتكييف القانونى للإقرار المذكور وهل هو عقد هبة أم عقد مساهمة فى مشروع ذى نفع عام مما يعد معه عقداً إدارياً تختص محاكم مجلس الدولة بنظره من عدمه.
ومن حيث إن المستقر عليه فى أحكام هذه المحكمة وما انتهت إليه محكمة النقض فى الطعن رقم 1276 لسنة 47ق بجلسة 25/12/1981 المقام من وزير التربية والتعليم ضد ورثة المرحوم/ أحمد السعدى الأتربى بخصوص ريع المبنى محل النزاع فإن عقد المساهمة فى مشروع ذى نفع عام هو عقد إدارى يتعهد بموجبه شخص برضائه واختياره بالمساهمة نقداً أو عيناً فى مشروعات الأشغال العامة أو المرافق العامة، وقد يكون المتعهد ذا مصلحة فى تعهده أو غير ذى مصلحة فيه، وقد يترتب بعوض أو يتمحض تبرعاً، وقد يكون مبتدأ من تلقاء المتعهد أو بطلب من جانب الإدارة، وقد يكون التعهد منجزاً أو قد يقع مشروطاً، ومهما اختلفت صور هذا العقد وتباينت أوصافه فهو يقوم على المساهمة الاختيارية فى مشروع ذى نفع عام، فهو عقد إدارى وثيق الصلة بعقود الأشغال العامة يمتاز بخصائص العقود الإدارية التى تنأى عن القواعد المألوفة فى مجالات القانون الخاص، ومن ثم فلا يتقيد فى شأنه إذا تم على وجه التبرع بقواعد الهبة المقررة فى القانون المدنى، وإنما تنطبع قواعده باحتياجات المشروع العام الذى يعهد إلى خدمته، وأسباب المصلحة العامة التى تستهدف المساهمة تحقيقها، وعليه فلئن كانت القاعدة فى ظل أحكام القانون المدنى وجوب أن تكون هبة العقار بورقة رسمية وإلا وقعت باطلة ما لم تتم تحت ستار عقد آخر لأن الورقة الرسمية بما تتضمنه من الإجراءات وما تستتبعه من الجهر والعلانية توسد ضمانات لأطرافها فتتفتح للواهب فرصة تأمل وتدبر فلا يتجرد من ماله وراء انفعال عارض، كما يظفر الموهوب له بسند رسمى يتسلح به دفاعاً عن حقه قبل ما تستهدف له الهبة من المطاعن، فإن مثل تلك الاعتبارات لا تستقيم دواعيها فى مجال العقد الإدارى بما يؤمنه لأطرافه من أسباب التدبر والروية وما يقتضيه من إجراءات أمام الجهة الإدارية ذات الشأن وهى من جانبها تقابل الرسمية التى تتطلبها الهبة المدنية، كما أن اعتبارات المصلحة والوفاء باحتياجات المرفق الذى تمهد المساهمة إلى خدمته يعلو ما عداها من الاعتبارات بما لا سبيل معه إلى التمسك بطلبات تفتقد دواعيها.
وترتيباً على ذلك فإن العقد محل الطعن وهو تبرع بتقديم عقار لجهة إدارية لإقامة مشروع ذى نفع عام على أن تتحمل الإدارة بقيمة النفقات وإقامة المشروع لا يعتبر عقد هبة وإنما يعتبر عقداً إدارياً تطبق عليه الأحكام والقواعد الخاصة بالعقود الإدارية وتختص محاكم مجلس الدولة بنظره.
ومن حيث إنه عن مبنى الطعن الخاص بتعرض مورث الطاعنين للإكراه للتوقيع على العقد فإن العقد ـ أيا كان نوعه ـ هو توافق إرادتين أو أكثر على إحداث أثر قانونى معين، ومن ثم فإن التراضى يجب أن يوجد حتى يقوم العقد، ويجب كذلك لكى يستقر العقد نهائيًا، ويتحتم أن يكون هذا التراضى صحيحاً بريئًا من عيوب الإرادة ومنها الإكراه.
وقد تناول القانون المدنى المادة (127) عنصر الإكراه وأثره فى التعاقد حين نصت على أنه:
(1) يجوز إبطال العقد للإكراه إذا تعاقد شخص تحت سلطان رهبة بعثها المتعاقد الآخر فى نفسه دون حق، وكانت قائمة على أساس.
(2) وتكون الرهبة قائمة على أساس إذا كانت ظروف الحال تصور للطرف الذى يدعيها أن خطراً جسيماً محدقاً يهدده هو أو غيره فى النفس أو الجسم أو الشرف أو المال.
(3) ويراعى فى تقدير الإكراه جنس من وقع عليه الإكراه وسنه وحالته الاجتماعية والصحية وكل ظرف آخر من شأنه أن يؤثر فى جسامة الإكراه”.
يتضح من ذلك أن الإكراه هو العمل الذى يبعث فى نفس الشخص رهبة تحمله على التعاقد، فهو يصيب الإرادة فى أحد عناصرها، وهو عنصر الحرية والاختيار، إذ المكره
لا يريد أن يتعاقد ولكن الرهبة التى ولدها الإكراه تدفعه إلى التعاقد فالإرادة تصدر حينئذ عن دوافع أوحت بها هذه الرهبة، ولهذا كانت إرادة معيبة، فالوسيلة المستعملة للضغط على المتعاقد ليست هى التى تفسد الإرادة، وإنما ما تبعثه هذه الوسيلة من رهبة فى النفس تحمل على التعاقد، فالإكراه الذى يعيب الإرادة هو الإكراه الذى تكون الإرادة فيه موجودة ولكنها ليست حرة، إذ يكون المتعاقد بين أن يتحمل الأذى أو يتعاقد، فيختار التعاقد لدرء الأذى عن نفسه أو عن غيره ولولا خوفه من هذا الأذى ما تعاقد، ويبين من نص المادتين 127، 128 مدنى أن شروط الإكراه ثلاثة أولها:أن تستعمل وسيلة للإكراه، وثانيها: أن تبعث هذه الوسيلة رهبة فى نفس المتعاقد تحمله على التعاقد، وثالثها: أن يكون الإكراه صادراً من المتعاقد الآخر أو أن يكون على علم بهذا الإكراه.
ومن حيث إنه باستظهار الإكراه فى الطعن الماثل فإن الطاعنين قد أشاروا إلى أن إرادة مورثهم المرحوم/ أحمد السعدى الأتربى قد شابها إكراه يبطلها وأنه لم يصدر منه مساهمة صحيحة عن إرادة سليمة فى مشروع ذى نفع عام.
فإن الثابت من الأوراق ومن ملف الطعن ومن الظروف والملابسات التى أحاطت بالمتبرع والإجراءات التى اتخذت ضده فى تاريخ معاصر لتوقيعه إقرار التنازل والتبرع محل الطعن كلها تشير وتؤكد أن المتبرع كان تحت ضغط أحداث ووقائع تفقد حريته فى الاختيار وأنه قدم على هذا التبرع مكرها لا مختارا ومن ثم فلم يكن هذا التبرع وليد إرادة حرة، فقد ثبت من الأوراق، ومن تقرير الخبير المقدم فى الدعوى المدنية أن الشرطة العسكرية كانت تجرى مع مورثهم تحقيقات فى عام 1966 من خلال لجنة تصفية الإقطاع التى شكلت فى ذلك التاريخ وأن اللجنة التى تسلمت المنزل تسلمته من وكيل مورث الطاعنين وكان من بين أعضائها مندوب عن المباحث الجنائية العسكرية بمحافظة الدقهلية وأمين الاتحاد الاشتراكى العربى بالناحية، وأنه عند انتقال مندوب المساحة للمعاينة بناء على طلب الشهر العقارى المقدم للشهر فى عام 1969 تعرض له وكيل المتبرع ولم تتم المعاينة وتم إيقاف الإجراءات كما أن الثابت أنه تم وضع ممتلكات مورث الطاعنين تحت التحفظ بعد التحقيق الذى تم بمعرفة اللجنة العليا لتصفية الإقطاع والشرطة الجنائية العسكرية، ومما لا شك فيه أن كل هذه الظروف المعاصرة لسند التبرع تؤكد أن التبرع محل الطعن لم يكن وليد إرادة حرة من مورث الطاعنين.
فليس من المقبول عقلاً ولا منطقاً أن شخصاً تجرى معه اللجنة العليا لتصفية الإقطاع من خلال الشرطة الجنائية العسكرية تحقيقاً، وأن يتم التحفظ على ممتلكاته بعد هذا التحقيق، ثم يقوم بالتبرع اختيارًا بجزء مما تبقى له من مال إلى الجهة الحكومية التى تجرى معه تحقيقاً وتتخذ ضده إجراءات استثنائية وتتحفظ على ممتلكاته فمن الأولى أن يحتفظ بمنزله ـ بعد أن تم التحفظ على ممتلكاته ـ كما أن مثل هذه الإجراءات والتحقيقات الاستثنائية تولج فى النفس ألماً وحسرة ومرارة، لا يقبل معها القول بأنه مع وجودها يقوم بالتبرع بمال له اختياراً للدولة، ولا يقوم هذا التبرع فى مثل هذه الظروف إلا جبراً وقهراً وإكراهاً، ولقد تأكد ذلك باعتراض المورث من خلال وكيله على معاينة مهندس المساحة المختص للمنزل عند الشروع فى إجراءات شهر العقار خلال أقل من ثلاث سنوات ولو كان تبرعه اختياراً لما اعترض على إجراءات الشهر عندما سمحت له الظروف بذلك فى عام 1969.
وحيث استبان للمحكمة على النحو المتقدم أن تبرع مورث الطاعنين بالمنزل محل هذا الطعن لم يكن وليد إرادة حرة واختيار وإنما كان وليد قهر وإكراه وإجبار، الأمر الذى يبطل ويعدم سند التبرع من أساسه ويعتبر كأن لم يكن وليس من شأنه أن يرتب أى أثر قانونى، ومن ثم فإن طلب الحكم بصحته ونفاذه يكون بغير سند سليم من الواقع أو القانون متعيناً رفض هذا الطلب وهو ما يعنى أيضاً بحكم اللزوم بطلان هذا المستند.
وحيث إنه لا يؤثر فى ذلك ويغيره وجود أحكام مدنية نهائية بشأن ريع هذا العقار والتى قضت برفض مطالبة الطاعنين بريع العقار محل هذا النزاع، فهذه الأحكام ليس لها أية حجية فى النزاع محل هذا الطعن، لأن موضوع الأحكام المدنية ـ كان المطالبة بريع العقار محل التبرع ـ وهو موضوع محل مختلف عن محل هذا النزاع ـ وهو طلب الحكم بصحة ونفاذ سند التبرع بالنسبة للجهة المتبرع لها، وهو الوجه الآخر لبطلانه بالنسبة للطاعنين وذلك طبقاً لنص المادة 101 من قانون الإثبات التى تشترط للتمسك بحجية الحكم اتحاد المحل والسبب والخصوم ـ هذا فضلاً عن أنه من المستقر عليه قضاءً أن النزاع محل الطعن هو نزاع حول عقد مساهمة فى مشروع ذى نفع عام وهو نزاع إدارى مما يختص به مجلس الدولة بهيئة قضاء إدارى ـ وهو اختصاص ولائى بنص الدستور والقانون ومن ثم فإن أى أحكام تصدر من جهة القضاء المدنى ـ وخصوصاً هذا النزاع ليست لها أية حجية أمام القضاء الإدارى الذى يعتبر الجهة القضائية المختصة ولائياً بالنزاع.
وحيث ثبت على النحو المتقدم بطلان سند التبرع محل هذا النزاع والطعن وإذ قضى الحكم المطعون عليه بصحته ونفاذه فإنه يكون قد أخطأ فى تطبيق القانون الأمر الذى يتعين معه الحكم بإلغائه والقضاء مجدداً برفض الدعوى وما ترتب على ذلك من آثار أهمها أحقية الطاعنين فى استرداد المنزل محل التبرع وإلزام الجهة الإدارية المطعون ضدها المصاريف.
فلهذه الأسباب
حكمت المحكمة
بقبول الطعن شكلاً، وفى الموضوع بإلغاء الحكم المطعون عليه والقضاء مجدداً برفض الدعوى على النحو المبين بالأسباب وألزمت المطعون ضدهم بصفاتهم المصاريف عن درجتى التقاضى.