جلسة 14 من مارس سنة 2009
(الدائرة الخامسة)
الطعن رقم 30318 لسنة 52 القضائية عليا.
ضباط– تأديب– شهادة الشهود- مدى الأخذ بها- سلطة المحكمة في ذلك.
العبرة في الإثبات في المواد التأديبية، شأنها شأن المواد الجنائية، هي باقتناع القاضي واطمئنانه إلى الأدلة المطروحة عليه، فله الأخذ بأي دليل يطمئن إليه إلا إذا قيده المشرع بدليل معين- تعتبر الشهادة من أهم الأدلة إثباتا أو نفيا، سواء في المجال الجنائي أو التأديبي- لما كانت الشهادة في الأصل هي تقريرٌ لشخص بما قد يكون قد رآه بعينيه أو سمعه بنفسه أو أدركه على وجه العموم بحواسه، أي أنها حصيلة معلومات قد حصل عليها بنفسه، وهي مما يحتمل الصدق أو الكذب؛ لذلك فإن تحقق حيدة الشاهد أمر مهم للوقوف على ما إذا كانت الشهادة واردة على الحقيقة المراد إثباتها من عدمه، وفي ذات الوقت ألا تكون تلك الشهادة مشوبة بالغرض أو الهوى لمن يشهد لمصلحته أو الشهادة ضده نكاية أو إضرارا به- إذا كان المشرع لا يجيز رد الشاهد فإن مرجع ذلك إلى كون شهادة الشهود تخضع لتقدير القاضي، الذي يملك وزن أقوال الشهود، وتقدير الظروف التي يؤدي فيها كل شاهد شهادته، بالنظر إلى الملابسات التي أحاطت بها، وينزلها المنزلة التي يراها ويقدرها التقدير الذي يطمئن إليه، وذلك بعد التحقق من أن الشاهد ينقل عن لسان الحقيقة وأن ما رواه هو بالفعل ما حدث- لا يشترط أن ينقل الشاهد بالتفصيل عين ما حدث وإنما يجب أن تتناول الشهادة الجانب الأكبر مما حدث– تطبيــــق.
ضباط– تأديب- سلطة مأمور الضبط القضائي في جمع الاستدلالات- ضوابطها- مخالفتها تستوجب مساءلته تأديبيا.
المادة (24) من قانون الإجراءات الجنائية.
يستقل مأمور الضبط بتقدير وسائل التثبت من المعلومات التي ترد إليه، وتحديد الإجراءات التي سوف يتبعها للتمكن من جمع الاستدلالات ليتحصل عن طريقها على جميع الإيضاحات والاستدلالات المؤيدة لثبوت أو نفي الوقائع المبلغ عنها أو التي علم بها- لم يحدد المشرع إجراءات يتقيد بها مأمور الضبط القضائي عند جمع الاستدلالات، ولم يلزمه بإجراء التحريات خلال فترة زمنية محددة، ولم يشترط عليه أن يقوم بإجراء التحريات بنفسه، كما لم يلزمه بالإفصاح عن مصادره السرية- لم يرسم القانون للتحريات صورة خاصة تتم على أساسها، ولا يوجد ترتيب معين في سلسلة جمع الاستدلالات، ولا يشترط حصول مأمور الضبط على إذن من رئاسته قبل إجراء الاستدلال، حيث يستقل بتحديد الإجراء المتبع، كما أن تنفيذه متروك لتقديره أيضا، يختار ما يراه صحيحا ومناسبا للوصول إلى الحقيقة؛ إلا أنه يجب تحرير محضر بإجراءات الاستدلال، يوقع عليه منه ويوضح فيه وقت اتخاذ الإجراءات ومكان حصولها.
التحريات لا تعدو أن تكون مجرد رأي لصاحبها يخضع لاحتمالات الصحة والبطلان، والصدق والكذب، وتعتبر مجرد قرينة لا تنهض وحدها دليلا على ثبوت الاتهام، وتخضع لتقدير قاضي الموضوع- لا يعني هذا أن مأمور الضبط يتمتع بسلطة مطلقة ولا يسأل عن أعماله، وإنما يلتزم بنصوص القواعد الإجرائية ويتقيد بمبادئها وأصولها، ويلتزم بالتعليمات الإدارية- تشترط في إجراءات عمل الاستدلالات المشروعية شكلا وموضوعا، مع وضوح دلالات الأدلة المستمدة من هذه الإجراءات- المقصود بمشروعيتها: مطابقتها لكافة نصوص ومبادئ القواعد الإجرائية الصادرة في شأنها، وعدم مخالفتها مبادئ الأخلاق والنظام العام والآداب العامة؛ فلا يجوز لمأمور الضبط نسبة اتهام إلى شخص ما مع أن إجراءات جمع الأدلة التي قام بها يكتنفها الغموض أو يشوبها اللبس، أو كانت نتيجة ظنون أو دوافع وهمية أو غير مشروعة- ليس له كذلك أن يحرض على ارتكاب الجريمة حتى يتمكن من ضبط الجاني أو أن يخلقها خلقا بطريق الغش والخداع؛ لأن هذا السلوك يتنافى مع الالتزام بالخلق القويم والمهمة الأساسية المنوطة بمأموري الضبط القضائي في ضبط الجرائم بعد وقوعها أو منعها قبل وقوعها- ارتكابه مثل هذا السلوك يستوجب مساءلته تأديبيا عنه– تطبيــــق.
في يوم الأربعاء الموافق 26/7/2006 م أودع الأستاذ/… المحامي وكيلاً عن الطاعن قلم كتاب المحكمة الإدارية العليا تقريراً بالطعن قيد بجدولها العمومي تحت رقم 30318 لسنة 52 ق. عليا طعناً على القرار الصادر عن مجلس التأديب الاستئنافي لضباط الشرطة في الاستئناف رقم 390 لسنة 2005 م بجلسة 27/5/2006 القاضي منطوقه بقبول الاستئنافين شكلاً وفي الموضوع بتعديل القرار المطعون فيه إلى مجازاة الضابط المستأنف ضده بخصم ما يعادل أجر شهرين من راتبه.
وطلب الطاعن – للأسباب الواردة بتقرير الطعن– الحكم بقبول الطعن شكلاً وبصفة مستعجلة بوقف تنفيذ القرار المطعون فيه وفي الموضوع بإلغائه مع إلزام المطعون ضده المصروفات ومقابل أتعاب المحاماة.
وجرى إعلان تقرير الطعن إلى المطعون ضده على النحو الثابت بالأوراق.
وقدمت هيئة مفوضي الدولة تقريراً مسبباً بالرأي القانوني في الطعن ارتأت فيه الحكم بقبول الطعن شكلاً ورفضه موضوعاً.
وحددت لنظر الطعن أمام دائرة فحص الطعون بهذه المحكمة جلسة 10/12/2007 وتدوول بالجلسات على النحو الثابت بمحاضرها، وبجلسة 24/11/2008 قررت تلك الدائرة إحالة الطعن إلى المحكمة الإدارية العليا– الدائرة الخامسة موضوع، وحددت لنظره أمامها جلسة 27/12/2008، فنظرت المحكمة الطعن بهذه الجلسة وبالجلسة التالية لها المنعقدة في 24/1/2009 على النحو الموضح بمحضريهما وبالجلسة الأخيرة قررت المحكمة إصدار الحكم بجلسة 14/3/2009 مع التصريح بتقديم مذكرات لمن يشاء خلال أسبوعين.
ومضى الأجل المصرح به دون إيداع أية مذكرات، وبجلسة اليوم صدر الحكم وأودعت مسودته المشتملة على أسبابه ومنطوقه لدى النطق به.
بعد الاطلاع على الأوراق وسماع الإيضاحات وبعد المداولة قانوناً.
من حيث إن الطعن أقيم خلال الميعاد المقرر قانوناً واستوفى أوضاعه الشكلية الأخرى.
ومن حيث إن عناصر المنازعة تخلص –حسبما يبين من القرار المطعون فيه وسائر الأوراق الأخرى– في أنه بتاريخ 26/4/2005 صدر قرار وزير الداخلية رقم 138 لسنة 2005 بإحالة النقيب/ سامح… الضابط بمديرية أمن المنيا (آنذاك) وبأمن الجيزة (حالياً) إلى مجلس التأديب الابتدائي لضباط الشرطة لمحاكمته تأديبيا؛ لأنه بوصفه موظفا عاما (ضابط شرطة) ارتكب ما يلي:
– الخروج على مقتضى الواجب الوظيفي والإخلال به ومخالفة التعليمات والسلوك المعيب لعدم توخيه الحرص والحذر في تعامله مع المواطن/ هاشم … وسماحه له بمقابلته بمكتبه بمركز شرطة سمالوط يوم 22/2/2005 دون مبرر أو مقتضٍ، وطلبه منه مبلغا ماليا بدعوى رغبته في التوصل لحقيقة حصول آخرين على مزايا مادية من جراء رسو مناقصة ترميم سجن مركز سمالوط عليه، أدى به إلى شكايته مدعياً طلبه منه تحقيق استفادة مادية، مما أثار الشكوك والريبة حول تصرفه معه، الأمر الذي أحط من قدره وأساء إليه وإلى الهيئة التي ينتمي إليها وعلى النحو الوارد بالتحقيقات والمعلومات.
– عدم إخطار رئاسته بشأن رغبته بالتوصل إلى حقيقة ادعائه بوجود علاقة بين رئيس المباحث المقدم/ إسماعيل … والشاكي/ هاشم … ولجوئه معه إلى أفعال وتصرفات بمحاولته استدراجه وافتقاده الفطنة التي يجب أن يتحلى بها كضابط مباحث وبصفة عامة كضابط شرطة، الأمر الذي أساء إليه وإلى الهيئة التي ينتمي إليها وعلى النحو الوارد بالتحقيقات.
– ادعاؤه على رئيسه المقدم/ إسماعيل … أمورا دون سند أو دليل بتحقيق استفادة مادية من المواطن/ هاشم… لو صحت لوجبت مساءلته إداريا وجنائيا، الأمر الذي أساء إليه وإلى الهيئة التي ينتمي إليها وعلى النحو الوارد بالتحقيقات.
وبجلسة 18/9/2005 قضى مجلس التأديب الابتدائي بإدانة الضابط المحال في المخالفات المنسوبة إليه ومجازاته بخصم ما يوازي أجر شهر من راتبه.
وإذ لم يلق هذا القرار قبولا لدى وزارة الداخلية فطعنت عليه بالاستئناف المقيد برقم 390 لسنة 2005 أمام مجلس التأديب الاستئنافي لضباط الشرطة للتشديد، كما لم يرتض الطاعن ذلك القرار فأقام استئنافا مقابلا، ونظر مجلس التأديب الاستئنافي هذين الاستئنافين على النحو المبين بمحاضر جلساته، وبجلسته المنعقدة في 27/5/2006 أصدر قراره المطعون فيه القاضي بقبول الاستئنافين شكلاً وفي الموضوع بتعديل القرار المطعون فيه إلى مجازاة الضابط المستأنف ضده بخصم ما يعادل أجر شهرين من راتبه.
وشيد المجلس قضاءه على أن المخالفات المنسوبة إلى الطاعن ثابتة في حقه على النحو الموضح بالأسباب الواردة بمدونات القرار الطعين.
وإذ لم يلق هذا القرار قبولا لدى الطاعن فقد أقام الطعن الماثل ناعياً على القرار المطعون فيه أنه قد صدر باطلاً للأسباب الموضحة تفصيلاً بتقرير الطعن، وتوجز في أن القرار الطعين أخطأ في تطبيق القانون للفساد في الاستدلال فضلاً عن القصور في التسبيب وكذا الإخلال بحق الدفاع، كما شابه التناقض بين الأسباب والمنطوق.
ومن حيث إنه من المقرر أن الشكاوى والبلاغات والتحريات وإن كانت تصلح لأن تكون سنداً لنسبة اتهام إلى من تشير إليه، إلا أن صلاحية هذا السند لتوقيع الجزاء التأديبي على مقترف الذنب الإداري مرهونة بأن تقوم الجهة الإدارية بإجراء تحقيق تواجه فيه المتهم بما هو منسوب إليه من خلال سماع أقوال الشهود وتحقيق دفاعه وفحص الأدلة ثم استخلاص الذنب الإداري من أدلة قائمة وثابتة في حقه من أصول موجودة لها مأخذها الصحيح من عيون الأوراق، وهو ما يشكل سببا يسوغ معه للسلطة المختصة بالتأديب الاعتماد عليه في توقيع الجزاء التأديبي.
ومن حيث إنه من المسلم به أن العبرة في الإثبات في المواد التأديبية شأنها شأن المواد الجنائية هي باقتناع القاضي واطمئنانه إلى الأدلة المطروحة عليه، فله الأخذ بأي دليل يطمئن إليه إلا إذا قيده المشرع بدليل معين، وتعتبر الشهادة من أهم الأدلة إثباتاً أو نفياً سواء في المجال الجنائي أو التأديبي، ولما كانت الشهادة في الأصل هي تقرير لشخص بما قد يكون قد رآه بعينيه أو سمعه بنفسه أو أدركه على وجه العموم بحواسه، أي حصيلة معلومات قد حصل عليها بنفسه وهي مما يحتمل الصدق أو الكذب؛ ولذلك فإن حيدة الشاهد أمر من الأهمية بمكان ولازم وضروري للوقوف على ما إذا كانت الشهادة واردة على الحقيقة المراد إثباتها من عدمه، وفي ذات الوقت ألا تكون تلك الشهادة مشوبة بالغرض أو الهوى لمن يشهد لمصلحته أو الشهادة ضده نكاية وإضراراً به.
كما أنه وإن كان المشرع لا يجيز رد الشاهد، فإن مرجع ذلك إلى كون شهادة الشهود تخضع لتقدير القاضي الذي يملك وزن أقوال الشهود وتقدير الظروف التي يؤدي فيها كل شاهد شهادته بالنظر إلى الملابسات التي أحاطت بها، وينزلها المنزلة التي يراها ويقدرها التقدير الذي يطمئن إليه، وذلك بعد التحقق من أن الشاهد ينقل عن لسان الحقيقة وأن ما رواه بالفعل قد حدث، ولكن لا يشترط أن ينقل الشاهد بالتفصيل عين ما حدث، وإنما يجب أن تتناول الشهادة الجانب الأكبر مما حدث.
ومن حيث إن المشرع أفرد الفصل الأول من الباب الثاني (جمع الاستدلالات ورفع الدعوى) من قانون الإجراءات الجنائية لبيان الأحكام المقررة في شأن مأموري الضبط القضائي وواجباتهم في المواد من 21 حتى 29 منه حيث نصت المادة 21 على أنه: “يقوم مأمورو الضبط القضائي بالبحث عن الجرائم ومرتكبيها وجمع الاستدلالات التي تلزم للتحقيق في الدعوى”.
وتنص المادة 23 على أنه: “أ-… (ب) ويكون من مأموري الضبط القضائي في جميع أنحاء الجمهورية: 1- مديرو وضباط إدارة المباحث العامة بوزارة الداخلية وفروعها بمديريات الأمن”.
وتنص المادة 24 على أنه: “يجب على مأموري الضبط القضائي أن يقبلوا التبليغات والشكاوى التي ترد إليهم بشأن الجرائم، وأن يبعثوا بها فورا إلى النيابة العامة، ويجب عليهم وعلى مرءوسيهم أن يحصلوا على جميع الإيضاحات ويجروا المعاينات اللازمة لتسهيل تحقيق الوقائع التي تبلغ إليهم أو التي يعلمون بها بأية كيفية كانت، وعليهم أن يتخذوا جميع الوسائل التحفظية اللازم للمحافظة على أدلة الجريمة.
ويجب أن تثبت جميع الإجراءات التي يقوم بها مأمورو الضبط القضائي في محاضر موقع عليها منهم يبين بها وقت اتخاذ الإجراءات ومكان حصولها…”.
وتنص المادة 29 على أنه: “لمأموري الضبط القضائي أثناء جمع الاستدلالات أن يسمعوا أقوال من يكون لديه معلومات عن الوقائع الجنائية ومرتكبها وأن يسألوا المتهم عن ذلك…”.
ومن حيث إن مفاد ما تقدم أن من الواجبات المفروضة قانوناً على مأموري الضبط القضائي في دوائر اختصاصهم المكاني أن يقبلوا التبليغات والشكاوى التي ترد إليهم بشأن الجرائم، وأن يقوموا بأنفسهم أو بواسطة مرءوسيهم بإجراء التحريات اللازمة عن الوقائع التي يعلمون بها بأية كيفية كانت، سواء بأنفسهم عن طريق مشاهدتها أو السماع بها من خلال ما يشاع عن الناس، أو من إجراء حوارات مع الغير، أو علاقات قاموا بها، أو استنتاجات عند شكهم في أي تصرفات تحاط بالشبهات، أو علموا بها عن طريق مصادرهم السرية، ويستقل مأمور الضبط بتقدير وسائل التثبت من تلك المعلومات وتحديد الإجراءات التي سوف يتبعها للتمكن من جمع الاستدلالات ليتحصل عن طريقها على جميع الإيضاحات والاستدلالات المؤيدة لثبوت أو نفي الوقائع المبلغ عنها أو التي علم بها؛ بحسبان أن المشرع لم يحدد إجراءات يتقيد بها مأمور الضبط القضائي عند جمع الاستدلالات، ولم يلزمه بإجراء التحريات خلال فترة زمنية محددة، ولم يشترط عليه أن يقوم بإجراء التحريات بنفسه، فمن حقه الاستعانة بأحد مرءوسيه أو الاستعانة برجال السلطة العامة أو المرشدين السريين، ودون أن يكون ملزماً بالإفصاح عن هذه المصادر السرية، حيث إن الأمر متروك لاقتناعه الشخصي بصحة ما تم نقله إليه، وأن يتحقق بنفسه من جدية الاستدلالات، حيث لم يرسم القانون للتحريات صورة خاصة تتم على أساسها، ولا يوجد ترتيب معين في سلسلة جمع الاستدلالات، ولا يشترط حصول مأمور الضبط على إذن من رئاسته قبل إجراء الاستدلال، حيث يستقل بتحديد الإجراء المتبع، كما أن تنفيذه متروك لتقديره أيضاً، يختار ما يراه صحيحاً ومناسباً للوصول إلى الحقيقة، حيث لا يتقيد بترتيب معين في تسلسل الإجراءات التي يتبعها؛ إلا أنه يجب تحرير محضر بإجراءات الاستدلال موقعا عليه منه، موضِّحا فيه وقت اتخاذ الإجراءات ومكان حصولها على النحو المنصوص عليه في المادة 24 من قانون الإجراءات الجنائية.
ومن حيث إنه وإن كانت التحريات لا تعدو أن تكون مجرد رأي لصاحبها يخضع لاحتمالات الصحة والبطلان والصدق والكذب، وأنها تعتبر مجرد قرينة لا تنهض وحدها دليلاً على ثبوت الاتهام المنسوب إلى المحال، وتخضع لتقدير قاضي الموضوع يبسط رقابته عليها للتحقق من مدى مطابقتها للواقع، إلا أن ذلك لا يعني أن مأمور الضبط يتمتع بسلطة مطلقة ولا يسأل عن أعماله، وإنما يلتزم بنصوص القواعد الإجرائية والتقيد بمبادئها وأصولها والتعليمات الإدارية والتي تشكل الواجبات الأساسية الواجب التقيد بها وعدم الخروج عليها، حيث يشترط في إجراءات عمل الاستدلالات المشروعية شكلاً وموضوعاً مع وضوح دلالات الأدلة المستمدة من هذه الإجراءات، والمقصود بمشروعيتها: مطابقتها لكافة نصوص ومبادئ القواعد الإجرائية الصادرة في شأنها، وعدم مخالفتها مبادئ الأخلاق والنظام العام والآداب العامة، فلا يجوز لمأمور الضبط نسبة اتهام إلى شخص ما مع أن إجراءات جمع الأدلة التي قام بها يكتنفها الغموض أو يشوبها اللبس أو كانت نتيجة ظنون أو دوافع وهمية أو غير مشروعة، كما أنه ليس له أن يحرض على ارتكاب الجريمة حتى يتمكن من ضبط الجاني أو أن يخلقها خلقاً بطريق الغش والخداع؛ لأن هذا السلوك يتنافى مع الالتزام بالخلق القويم والمهمة الأساسية المنوطة بمأموري الضبط القضائي في ضبط الجرائم بعد وقوعها أو منعها قبل وقوعها، مما يستوجب مساءلته تأديبيا عن هذه المخالفات.
ومن حيث إنه على هدي ما تقدم فإنه لما كان الثابت من مطالعة أوراق الطعن أن قسم الضباط بمديرية أمن المنيا أعد مذكرة مؤرخة في 25/2/2005 تضمنت أنه قد وردت معلومات لإدارة البحث الجنائي بالمديرية تتضمن قيام النقيب/ سامح … (الطاعن) الضابط بوحدة مباحث مركز شرطة سمالوط باستغلال وظيفته وذلك بالضغط على أحد المقاولين ويدعى/ هاشم … صاحب شركة … للمقاولات، والذي أسندت إليه عملية توسعة وتطوير بسجن مركز شرطة سمالوط مقابل مبلغ مئتين وعشرين ألف جنيه، ومطالبة الطاعن له بدفع مبالغ مالية له دون وجه حق، وباستدعاء المقاول المذكور بمعرفة إدارة البحث الجنائي وبمناقشته أقر بصحة هذه المعلومات، وأشار إلى أنه تسلم موقع سجن المركز لبدء العمل فيه بتاريخ 14/12/2004 ، وبعد حوالي خمسة عشر يوماً تقريباً فوجئ بقيام الطاعن باستدعائه لمكتبه بمركز شرطة سمالوط ومساومته للحصول على مبلغ مالي منه بدعوى أنه سيحقق من وراء هذه العملية ربحا يصل إلى مبلغ مئة وعشرين ألف جنيه، واستمرت المساومة بينهما حتى وصل المبلغ إلى ثلاثين ألف جنيه، وأنه تمكن من تسجيل ما دار بينهما من حوارات.
كما أنه باستدعاء الضابط المذكور وبمواجهته بما قرره المقاول المذكور أيد صحة ما جاء بالمكالمات الهاتفية التي دارت بينهما موضحا أنه قصد من جراء ذلك التوصل إلى أية معلومات تفيد قيام المقاول المذكور بدفع مبالغ نقدية (رشوة) لأي من الضباط بمركز شرطة سمالوط لحصوله على العملية المذكورة سلفا. وقد تم نقل الضابط المذكور من موقعه بوحدة مباحث مركز شرطة سمالوط للعمل بقسم المباحث الجنائية بالمديرية وذلك اعتباراً من 25/2/2005.
ومن حيث إنه لا خلاف بين أطراف الخصومة بشأن صحة ما أثبتته التحقيقات الإدارية التي أجراها مفتش الداخلية بشأن ما نسب إلى الطاعن بخصوص مقابلته للمقاول المذكور بمكتبه ومحادثته هاتفيا من أنه كان من قبيل إجراءات جمع الاستدلالات حيث توافرت لديه وفي تقديره معلومات كافية ولَّدت لديه الشكوك في قيام المقدم/ إسماعيل … رئيس وحدة المباحث بمركز شرطة سمالوط وبعض الضباط الآخرين بالمركز بتقاضي مبالغ مالية من المقاول المذكور على سبيل الرشوة نتيجة رسو المناقصة عليه، وهذه الشكوك عنده كانت لها دلائل مادية تمثلت في تردد المقاول على مكتب المقدم/ إسماعيل … العديد من المرات ليلا دون مقتضٍ، وأنه في حديثه مع المقاول فهم منه أن هناك آخرين استفادوا ماديا منه، كما ثبت أن مقابلة الطاعن للمقاول المذكور ومحادثته هاتفيا كانت في مجال التحريات التي يقوم بها، وفي نطاق رغبته في استدراج المقاول ومناقشته وصولا لمعرفة حقيقة الموضوع، والوصول إلى وجود علاقة بين المقدم المذكور والمقاول، ومعرفة ما إذا كان هناك آخرون استفادوا مادياً وتحصلوا على مبالغ مالية من المقاول من عدمه، فضلا عن أن التحقيقات المشار إليها كشفت عن أن الطاعن كان يستدرج المقاول المذكور في الكلام بطلبه منه مبلغا ماليا، وأنه لم يأخذ منه أي مبلغ مالي باعتراف المقاول وبإقرار الطاعن، وخلت الأوراق من أي دليل يناقض ذلك.
ومن حيث إن الثابت من تلك التحقيقات أنه بسؤال المقدم/ إسماعيل … رئيس وحدة المباحث بمركز شرطة سمالوط والذي يخضع الطاعن لرئاسته بشأن ما نسب إلى الطاعن أقر بأن الطاعن اتصل به تليفونيا وأقر له بأنه كان يستدرج المقاول المذكور في الكلام وطلب منه مبلغا ماليا “علشان يطمئن” بهدف الوصول لمعرفة ما إذا كان هناك آخرون تقاضوا منه مبالغ مالية من عدمه، وأنه علم أن المقاول قام بتسجيل كافة الاتصالات التليفونية التي تمت بينهما وكان “بيأخذ رأيه ماذا يفعل”، ولم يحدد له عدد الاتصالات التليفونية بينهما، ولم يحدد المبلغ الذي قام بطلبه، ولم يحدد له أسماء الآخرين الذين تقاضوا مبالغ مالية من المقاول عن عملية المناقصة المذكورة.
وإذ ثبت من مطالعة محضر جلسة 17/7/2005 م أمام مجلس التأديب الابتدائي لضباط الشرطة أن العقيد/ محمد … رئيس مباحث المنيا شهد بأن المقاول عرض 25 ألف جنيه على الطاعن، وقال له: “سوف أدبر لك عشرة آلاف والباقي سوف أحضره”، إلا أن الطاعن رفض أخذ المبلغ ابتداء، وأن طبيعة عمل الطاعن بصفته معاون مباحث مركز شرطة سمالوط تسمح له بمقابلة المقاول المسندة إليه العملية المذكورة؛ حيث إنه مسموح لضباط المباحث التقابل مع أي شخص في الأمور المتعلقة بأعمال البحث الجنائي في اختصاصه، وأن الضابط المذكور (الطاعن) حضر من تلقاء نفسه للمكتب لمقابلة مدير المباحث، وأنه كان يعرف بهذا الموضوع، وأن الطاعن “قال له عن الواقعة من نفسه وأعطاه علما بذلك”.
ومن حيث إنه متى ثبت بجلاء مما تقدم أن الطاعن أثناء قيامه بالتحريات طبقاً لما سلف بيانه قد تم نقله إلى المباحث الجنائية بالمديرية قبل أن يتم تحرياته، وأن التحريات التي قام بها الطاعن طبقاً لما تقدم تستند إلى دلائل وشواهد وشبهات، وقد ارتآها لازمة لاكتشاف جريمة الرشوة ومعرفة مرتكبيها، وأنه قدر –من وجهة نظره– جديتها وكفايتها لإجراء تحرياته بداءة بطريقة سرية، ثم إظهار هذا العمل بإخطار رئاسته بما قام به، فضلا عن أن الأعمال التي قام بها أثناء جمعه الاستدلالات تعتبر من قبيل أعمال البحث والتحري التي تدخل في اختصاصه كضابط مباحث، ومن ثم فإن المخالفتين الأولى والثانية الواردتين بأمر الإحالة المنسوبتين إلى الطاعن لا محل لهما؛ حيث إن الوصف القانوني للوقائع المنسوبة إلى الطاعن فيهما لا يرقى إلى مرتبة السلوك المعيب، وبالتالي لا تشكل مخالفات تأديبية، خاصة وأن الطاعن راعى الحفاظ على حقوق الأفراد، وعدم المساس بحرماتهم وحرياتهم، ولم يتسبب في الإضرار بهم بدون مقتضٍ، فضلا عن أن تقدير مدى جدية المعلومات المتوافرة لديه عن واقعة جنائية ومدى كفايتها لإجراء التحريات اللازمة لاكتشاف الجريمة ومعرفة مرتكبيها أمر متروك لتقديره كضابط مباحث، ومن ثم فإنه لا وجه لمساءلة الطاعن عن هاتين المخالفتين.
ومن حيث إنه بالنسبة للمخالفة الثالثة المنسوبة إلى الطاعن المتمثلة في ادعائه على رئيسه المقدم/ إسماعيل … أمورا دون سند أو دليل بتحقيق استفادة مادية من المواطن/ هاشم …، لو صحت لوجبت مساءلته إداريا وجنائيا، فإنه لما كان الثابت من مطالعة التحقيقات الإدارية أن الطاعن أثناء التحقيق معه لم يكشف عن شخصية من قام بإجراء تحرياته عنهم، عدا ما نسبه فقط إلى رئيسه في العمل المقدم/ إسماعيل… من أنه حصل على مبالغ مالية من المقاول المذكور، مستنداً إلى الدلائل التي استقى منها هذه المعلومة، وهي أنه في غضون شهر رمضان الماضي -ولا يتذكر اليوم تحديدا- وأثناء استقلاله سيارة مأمور المركز وبصحبتهما المقدم/ إسماعيل … رئيس وحدة مباحث المركز آنذاك في طريق عودتهم من خدمة قرية دفش التابعة للمركز، تحدث المأمور عن المناقصة التي وردت للمركز لترميم وتطوير سجن المركز بمبلغ 240 ألف جنيه، وكان يوجه حديثه للمقدم المذكور، الذي قرر له أنه على استعداد لإحضار مقاول من طرفه يقوم بتلك العملية، مردداً لفظ “إحنا أولى بيها”، ووافق المأمور على ذلك، وأنه عقب ذلك بحوالي 25 يوما، وأثناء دخوله مكتب رئيس وحدة المباحث المذكور شاهد المقاول جالساً معه، وعلم منه أنه المقاول الذي سيقوم بتطوير سجن المركز، وموضحا له أن ربح المقايسة حوالي 100 ألف جنيه، يحصل منها المقاول على خمسين ألف جنيه، والباقي يتم اقتسامه، وكان ذلك في وجود النقيب/ محمد …، وعقب ذلك لاحظ تردد المقاول على مكتب رئيس وحدة المباحث المذكور في أوقات متأخرة من الليل، ولدى حضوره للوحدة كان رئيس المباحث يطلب منه مغادرة المركز للمرور، وأنه أشاع بالمركز أنه نقله إلى مركز شرطة بني مزار، وأنه هو الذي تسبب في نقله، واستشهد على ذلك بكل من المقدم/ إبراهيم … مفتش مباحث مركز سمالوط والمقدم/ السيد … نائب المأمور والعقيد/ حمد الله … وكيل إدارة البحث الجنائي، وأقر بوجود خلافات بينه وبين المقدم/ إسماعيل… بخصوص العمل، ونفى وجود أدلة مادية تثبت صحة ادعائه عليه باستفادته ماديا من المقاول.
ومن حيث إنه بسؤال كل من العميد/ أحمد… مأمور مركز شرطة سمالوط والمقدم/ إسماعيل … الضابط بإدارة البحث الجنائي بالمنيا، والنقيب/ محمد … معاون مباحث مركز شرطة سمالوط والمقدم/ إبراهيم … والعقيد/ حمد الله … الضابط بإدارة البحث الجنائي بالمنيا والمقدم/ السيد … مأمور مركز شرطة سمالوط، وبمواجهة كل منهم بما قرره الطاعن أجمعت أقوالهم جميعا على نفي كل ما ورد بأقوال الطاعن على النحو الوارد بالتحقيقات، كما أنه بسؤال كل من الخفراء النظاميين (… … … …) من قوة مركز شرطة سمالوط والمعينين بنوبتجية مكاتب واستراحة ضباط مباحث مركز شرطة سمالوط نفوا تردد المقاول المذكور على المقدم/ إسماعيل … رئيس المباحث بمكتبه أو الاستراحة أو معرفتهم بالمقاول المذكور.
ومن حيث إنه متى ثبت ما تقدم، وكان الثابت على نحو ما ورد بتقرير الاتهام أن الطاعن ادعى اقتراف رئيسه المذكور واقعة الحصول على مبلغ مالي من المقاول على سبيل الرشوة، وأن الدلائل التي ارتكن إليها في نسبة هذا الاتهام لا يساندها أي دليل في ضوء ما أسفرت عنه التحقيقات الإدارية من حقائق، وما ثبت بشهادة الشهود من عدم صحة ما قرره الطاعن في هذا الصدد، كما أن ما قدمه الطاعن من أوجه دفاع بتقرير طعنه ومذكرات دفاعه خلت مما يساند ادعاءه ويؤازره على نحو يرفعه إلى مستوى الدلائل الحقيقية المستقاة من الواقع المفصح عن تحققها، كما خلت الأوراق من أي دلائل واضحة تكفي لإسناد الاتهام المشار إليه أو ما يستدل به على اتجاه الشبهات نحو المذكور، في حين أن أوراق الطعن كشفت عن أن الطاعن في نسبته هذا الادعاء إلى رئيسه المذكور في التحقيق الذي أجري معه كان مدفوعاً بظنون ودوافع وهمية من واقع ما أقر به من وجود خلاف سابق بينهما في العمل، وظنه أنه هو المتسبب في نقله، وهذا التصرف يأباه الخلق القويم، وفيه مساس بحرمة رئيسه المذكور، مما يدل على تهاونه واستهتاره في أداء عمله، وعدم القيام بالواجب المنوط به بدقة وأمانة، مما يستوجب مساءلته تأديبياً عن هذه المخالفة متى قام موجبها.
ومن حيث إنه ترتيباً على ما تقدم وإذ أدان القرار الطعين الطاعن عن المخالفات الثلاث الواردة بأمر الإحالة، وكان الطعن على القرار المطعون فيه في محله بالنسبة للمخالفتين الأولى والثانية، مما يتعين معه والحالة هذه الحكم بإلغائه في هذا الشق من قضائه، والقضاء ببراءة الطاعن في المخالفتين المذكورتين المنسوبتين إليه بقرار الإحالة، إلا أن ما ينعاه الطاعن بالنسبة للمخالفة الثالثة المسندة إليه لا يكون مقبولا، الأمر الذي يستوجب مجازاته عنها، وتقدر المحكمة هذا الجزاء بخصم خمسة عشر يوما من راتبه.
حكمت المحكمة بقبول الطعن شكلا، وفي الموضوع بإلغاء القرار المطعون فيه، والقضاء مجددا بمجازاة الطاعن بخصم خمسة عشر يوما من مرتبه، وذلك على النحو المبين بالأسباب.